خواطر من الكون المجاور
الخاطرة 143 : شيء عن الحب.
طوال أيام اﻷسبوع وأنا أفكر بموضوع المقالة التي سأكتبها ، ورغم أنه هناك مواضيع كثيرة تنتظر دورها لتعرض في الصفحة ، ولكن كنت في كل مرة أحاول فيها أن أحصر فكري في موضوع معين ﻷبحث فيه بالتفصيل أجد عناصره تهرب مني وكأنها تقول لي بأنه لم يأتي دورها بعد، فأجد نفسي مضطرا للإنتقال إلى موضوع آخر ﻷبحث فيه ،وعندما أحاول أن أتعمق فيه أيضا أجد من جديد عناصره شاردة هنا وهناك وتتلاشى هي اﻷخرى ، فأجد نفسي مرة أخرى أتخلى عن الموضوع لأنتقل إلى موضوع آخر.... ثم إلى موضوع آخر... ومرت أيام اﻷسبوع دون أن أستطيع أن أجد موضوع يقبل أن أكتب عنه ليكون مقالة اﻷسبوع.


هذه الظروف التي عشتها في أيام هذا اﻷسبوع والتي منعتني من التركيز في موضوع معين ، ذكرتني بحادثة لطيفة حصلت معي في بداية وجودي في اليونان عندما كنت طالبا في معهد اللغة اليونانية ، في تلك الفترة بجانب دراستي للغة كنت أعمل يوميا لتأمين تكاليف الحياة والدراسة ، لذلك لم يكن لدي وقت كاف أصرفه على الدراسة وتعلم الدروس وحل التمارين، فتعلمي للغة بشكل أساسي كان يحصل عادة أثناء العمل عن طريق المحادثات التي أقيمها مع اليونانيين في العمل ، وهذا ما جعلني أبدو من خلال المناقشات التي أخوض بها داخل الصف وكأنني أكثر تفوقا في اللغة من بقية طلاب الصف ، فكانت المعلمة تعتقد بأنني أذاكر دروس اللغة لساعات طويلة.
في إحدى المرات طلبت المعلمة من الطلاب أن يكتبوا موضوع إنشاء عن ( الحب ) بشكل عام ، وأن يكون هذا الموضوع جاهزا في اليوم التالي ، ورغم أني جلست في المساء لكتابة هذا الموضوع ولكن لضيق الوقت المتاح وكذلك فقر قاموسي بالمفردات التي أحتاجها كنت اضطر أن أغير الجمل التي أبحث عنها ، وهكذا وجدت نفسي عاجزا عن كتابة أي شيء في هذا الموضوع يناسب مستواي أمام المعلمة وبقية الطلاب.
في اليوم التالي وأثناء ساعات العمل ،كنت أبحث عن حل ينقذني من هذه المشكلة ﻷبقى عند حسن ظن المعلمة وبقية الطلاب ، فخطرت على بالي فكرة رائعة ، وهي أن أكتب الموضوع بشكل مختصر جدا عن طريق تحويله إلى قصيدة شعرية، فحسب رأيي أن الشعر يختلف عن الكتابة الإنشائية ، فالكتابة اﻹنشائية هي عبارة عن وصف الموضوع بشكل عام وبشيء من التفصيل ، بينما القصيدة الشعرية فهي التي تظهر علاقة الشكل مع المضمون بكلمات قليلة جدا وضمن وزن وموسيقى وبشكل متناغم بين بعضها البعض.
هذه الفكرة الفجائية حمستني وجعلت الدماء في عروقي تصعد نحو رأسي لتقوم بتنشيط جميع خلايا دماغي وتدفعها إلى العمل لتحقيق هذه الفكرة على أفضل صورة، فقد كان في حوزتي قصائد حب عديدة قصيرة كنت قد كتبتها أيام الخدمة العسكرية. فوجدت واحدة منها مناسبة ﻷنها قصيرة وسهلة الترجمة إلى اليونانية ، ولكن رأيت أنها لم تكن كافية لوحدها ، ووجب علي إيجاد واحدة أخرى ملائمة بشكل يحدث نوعا من التكامل في المشاعر مع اﻷولى ليحدث ما يسمى (بداية ونهاية ) أو ( سؤال وجواب ) أو (فتح وإغلاق ) بحيث تجعل المستمع يجد نفسه يحاول فهم و معايشة ذلك اﻹحساس الذي إنتابه فجأة أثناء سماعه كلمات القصيدة فتجعله بدلا من إنتظار مقطع آخر يجد نفسه بشكل لا إرادي يحاول أن يربط معاني المقطع الثاني مع اﻷول لفهم حقيقة ما يحدث.
لتحقيق هذا النوع من المشاعر المختلفة والمتناغمة مع بعضها البعض ، وجب علي أن أقوم بتأليف مقطع شعري قصير مناسب للمقطع اﻷول وليكون معه ما يسمى البداية والنهاية ، وﻷن المقطع اﻷول يتكلم عن علاقة حب ذو نوعية مختلفة نهائيا عن علاقة الحب المعروفة في الدول الغربية ، والتي عادة لا تتعدى متعة الجسد لذلك وجب المقطع الثاني أن يعبر عن شيء له علاقة بمتعة الروح ، هذه المتعة التي للأسف شباب المجتمعات الغربية اليوم لا يشعرون بوجودها نهائيا.
فكرة المقطع الثاني كانت موجودة في ذهني منذ زمن طويل ولكن كان علي في تلك الساعات تحويلها إلى قصيدة وباللغة اليونانية ، وبسبب كوني في تلك الفترة أعرف فقط الكلمات اليونانية البسيطة خرجت القصيدة أيضا بشكلها البسيط لتلائم براءة المشاعر التي تحملها معاني كلمات القصيدة ، فالروح لا تحتاج إلى تعقيدات الفن الحديث الذي يجعل القارئ يتوه في بحر من الظلمات ، ولكنها تحتاج فقط إلى صدق المشاعر ورهافة اﻹحساس. وهكذا كان.
في الصف ، وبعد أن قرأ عدد من الطلاب ما كتبوه عن الموضوع ، أتى دوري في القراءة، فأخبرت المعلمة بأنني كتبت قصيدة شعرية بدلا من موضوع إنشاء، الفكرة أدهشت وأعجبت المعلمة كثيرا ، وﻷن قسما كبيرا من الطلاب لم يفهم ما ذكرته للمعلمة ، لذلك قامت وشرحت لهم ما أعنيه ، ثم طلبت من الطلاب الصمت ليكون الجو مناسبا لمثل هذا النوع من القصائد. فبدأت أقرأ بصوت ونبرة مناسبة لمعاني كلمات القصيدة :
" عيناي
وعيناك
لوحتان للحب
عندما تلتقيان
يستيقظ القمر
وتغني النجوم
أغنية الولادة "
" في غرفتك تنتظرين
وفي غرفتي أنتظر
وهناك من بعيد
يبكي الحب
وينتظر
وحدنا
أنت وأنا
نشعر بملوحة دموعه الساخنة
بين شفتينا
فصبرا صغيرتي
صبرا جميلا "
وكان تأثير القصيدة أقوى بكثير مما توقعت، القصيدة وقعت على قلب المعلمة وكأنها شرارة برق قد لمعت أمامها فجأة ، فرأيتها للحظات تنظر إلي دون أن تراني وفكرها يحاول أن يستوعب ما سمعته مني قبل لحظات، فالصور الذهنية في القصيدة وكذلك الوزن الموسيقي في المقطع الثاني الذي أكتبه ﻷول مرة كقصيدة مستخدما كلمات يونانية بشكل تأخذ في صياغتها نوع من الموسيقى العاطفية،ويبدو أن النتيجة قد أثرت في المعلمة وجعلها تنتقل بمشاعرها إلى عالم مختلف تماما عن العالم الذي تعيش فيه، ورأيتها بعد لحظات من الصمت تقترب مني وتأخذ الصفحة من يدي لتقرأ منها ما كتبته ولكن بتمعن أكثر ولعدة مرات.
منذ ذلك اليوم أصبحت بالنسبة للمعلمة روح الصف وبهجته ، وﻷنني كما ذكرت كنت أعمل يوميا بجانب دوامي في معهد اللغة ، لذلك كنت في بعض اﻷحيان أضطر أن أغيب عن بعض الدروس ، وﻷنها كانت تعلم بأن الغياب المتكرر عن الدروس لم يكن سببه إستغلالي لمودتها لي ولكن ﻷسباب طارئة في عملي ، لذلك كانت تسامحني ولا تدون غيابي في سجل الحضور حتى لا يكون سببا في منعي من دخول اﻹمتحانات اﻷخيرة.
وهكذا تحولت مشكلة عدم وجود الوقت الكافي للدراسة إلى نعمة جعلتني أبدو في نظر بقية طلاب الصف وكأنني الطالب اﻷول وأكثرهم محبة في قلب المعلمة ، حتى أن كثير منهم ظنوا أنه ربما كان هناك علاقة حب سرية بيني وبينها وأننا ربما نلتقي خارج المعهد لنعبر عن حبنا، وطبعا لم يكن هذا صحيحا فعلاقتي بالمعلمة كانت علاقة بريئة تماما ، علاقة تعبر عن سمو مشاعر ذلك العالم الذي شعرت المعلمة بوجوده من خلال تلك القصائد التي كانت تطلب مني باستمرار أن أكتبها عن مواضيع اﻹنشاء التي كانت مفروضة على الطلاب خلال الفصل الدراسي العام . هذه القصائد والتي ربما من شدة تأثرها بها لا تزال تحتفظ بها حتى اﻵن ، ربما لست أدري.
وهكذا تعلمت مبدأ هام في حياتي، أنه كلما شعرت أن هناك شيء ما يعرقل أفكاري ويمنعها من الخروج ، أن أقول في نفسي " عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. ...وأنا على ثقة تامة بأن ما يختاره الله لنا هو أجمل بكثير مما نختاره ﻷنفسنا. فصبرا جميلا مهما كانت العقبات التي تقف أمامنا .
ز. سانا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق