الخاطرة 47 : اللحظة اﻹلهية الحاسمة
إن منطق المنهج العلمي الحديث يعتبر أن العقل وطريقة عمله هو اﻷساس في كل التطورات اﻹنسانية والعلمية التي حدثت على مر العصور ويُظْهِره لنا وكأنه لا وجود لأي تدخل إلهي في كل ما حصل من أحداث وأن فكرة القضاء والقدر ليست إلا نوع من الخرافات لا تقنع سوى عقول أفراد المجتمعات المتخلفة، وللأسف هذا المنطق الذي يزرعه المنهج العلمي الحديث من خلال الكتب المدرسية منذ السنوات اﻷولى في المدارس في عقول اﻷطفال، بدأ يخلق نوع جديد من طريقة التفكير عند اﻹنسان ، حيث بدأت تجعله يعتقد بأنه كائن منفصل عن اﻵخرين وعن البيئة الطبيعية والروحية المحيطة به وبأنه وحده فقط يمكنه أن يفعل ما يشاء لنفسه ولمستقبله.
وما يحز في نفسي هو أن كثيرا من آراء العلماء والمفكرين أثناء محاولة بحثهم و تحليلهم لموضوع معين أو لمشكلة معينة نجدهم لا يتطرقون نهائيا لدور الشق الروحي للموضوع أو بمعنى آخر لدور التدخل اﻹلهي في هذه المشكلة أو في ذلك الموضوع ، وربما - لست أدري - أن الله عز وجل في الفترة اﻷخيرة لم يعد يتدخل في حل المشاكل الإنسانية التي وصلت إلى مرحلتها الوحشية ، فقط ليعبر لنا عن حقيقة منطق التفكير العام للإنسانية كما وصل إليه في هذه اﻷيام ، وكأنه يقول لنا " طالما أنكم تعتقدون بأنكم لستم بحاجة لي ، أروني كيف ستحلون مشاكلكم بأنفسكم"، وبدلا من أن يستطيع كبار العلماء بشتى فروع علومهم من حل هذه المشاكل نجدهم قد وصلوا إلى مرحلة نرى فيها جميع العلماء يرفعون أيديهم عاجزين عن حلها ﻷنها وصلت إلى مرحلة أعقد بكثير من المستوى العقلي للإنسان ،ولعل أفضل مثال يمكن أن يوضح لنا هذه النقطة هو مشكلة اﻷزمة اﻹقتصادية التي يمر بها الشعب اليوناني التي بدأت قبل خمس سنوات ولا تزال حتى اﻵن ، حيث في بداية اﻷزمة ذهبت اللجنة المسؤولة في اﻹتحاد اﻷوربي وجمعت أكبر العقول اﻹقتصادية في اﻹتحاد اﻷوربي ليجدوا حل لهذه اﻷزمة اﻹقتصادية التي تمر بها اليونان ، وبعد دراسة تفاصيل اﻷزمة بشكل دقيق وضعوا قرارات إقتصادية وطلبوا من الحكومة اليونانية تنفيذها لتتخلص من مشكلتها، وبعد تنفيذ هذه القرارات لمدة عامين وجدت الحكومة اليونانية بأن تنفيذ نصائح أكبر أساتذة اﻹقتصاد في العالم قد زادت الطين بلة و بدلا من أن تحل المشكلة حصل العكس فقد سببت بإنهيار كامل على جميع نواحي المعيشة في البلاد ، فذهبت الحكومة وقدمت إعتراضاتها للمسؤولين في اﻹتحاد اﻷوربي ، ولكن المسؤولين هناك أصروا على متابعة تنفيذ القرارات وأقنعوا الحكومة اليونانية بأن متابعة هذه القرارات ستؤدي قريبا إلى خروج البلاد من اﻷزمة ، ولكن اﻷحزاب المعارضة رفضت اﻹستمرار في تنفيذ هذه القرارات لانها تقود مستوى المعيشة في البلاد إلى مستوى لم تصل إليه البلاد حتى في فترة الحرب العالمية الثانية عندما كانت تحت إستغلال جيوش هتلر.
رفْض اﻷحزاب المعارضة في اليونان لنصائح المسؤولين اﻹقتصاديين في اﻹتحاد اﻷوربي أدى إلى سقوط الحكومة ، مع إستلام الحكومة الجديدة وبعد مناقشات طويلة مع المسؤولين في اﻹتحاد اﻷوربي تم وضع قرارات إضافية ، وبعد فترة من تنفيذ هذه القرارات رأى الشعب اليوناني أنه بدلا من خروج اليونان من اﻷزمة ،ساء إقتصاد اليونان أكثر فأكثر ، فنسبة كبيرة من المحلات التجارية والمصانع توقفت عن العمل بسبب اﻹفلاس ، نسبة كبيرة من العمال والموظفين خسروا عملهم ولم يعد لديهم مورد مالي يستطيعون به تأمين تكاليف معيشة عائلاتهم ، فقط لفهم مستوى سوء الحالة التي وصلت إليها اليونان يكفي أن نذكر بأن نسبة اﻹنتحار في اليونان قبل اﻷزمة اﻹقتصادية كانت تقريبا 3-4 أشخاص سنويا وكان سبب اﻹنتحار هي أشياء عادية. . فشل في قصة حب ، أوفشل في الدراسة. ... ولكن بعد اﻷزمة اﻹقتصادية وصلت نسبة اﻹنتحار إلى 2500 شخص سنويا ، وجميعهم بسبب سوء المعيشة وسوء الحالة النفسية التي نتجت عن اﻷزمة اﻹقتصادية.
بعد ثلاث سنوات تقريبا من اﻷزمة اﻹقتصادية إعترف المسوؤلون اﻹقتصاديون في اﻹتحاد اﻷوربي بأن القرارات التي وضعها علماء اﻹقتصاد على الشعب اليوناني كانت خاطئة وكانت فعلا هي السبب في زيادة تدهور اﻹقتصاد اليوناني ، لذلك إجتمع ثانية أكبر العقول اﻷوربية في علم اﻹقتصاد للبحث ودراسة اﻷزمة اليونانية لوضع قرارات جديدة تستطيع بها الحكومة اليونانية حل مشكلتها اﻹقتصادية والخروج من اﻷزمة ، اﻵن وبعد خمس سنوات من بداية اﻷزمة ،حالة اليونان بجميع نواحي الحياة وصلت إلى أسفل السافلين والدراسات الحديثة للأزمة دفعت الكثير من علماء اﻹقتصاد باﻹعتراف بأن القرارات التي وضعها اﻹتحاد اﻷوربي والتي طبقتها الحكومة اليونانية كانت أيضا خاطئة وساهمت في إنهيار اﻹقتصاد والمعيشة في اليونان لتصل اﻷمور اليوم في اليونان أن يعترف بعض الوزراء في الحكومة اليونانية بأن الشعب اليوناني منذ ولادته وحتى اﻵن لم يشعر بالذل وإنكسار النفس كما يشعر به في هذه اﻷيام .
من يقرأ آراء علماء اﻹقتصاد عن أسباب تدهور اﻷزمة اﻹقتصادية في اليونان يجد أن آراء العلماء في تعارض كامل فيما بينها وكل عالم يتهم اﻵراء اﻵخرى . الشيء الوحيد الذي لا يمكن الشك به هو ما يصرحه الكثير والذي يمكن تلخيصه في هذه العبارة ( القرارات التي فرضها اﻹتحاد اﻷوربي على اليونان بسبب اﻷزمة اﻹقتصادية كانت جريمة بحق الشعب اليوناني ).
الشيء نفسه يحصل اليوم في اﻷزمة السورية يجتمعون كبار السياسيين من جميع دول العالم لحل هذه المشكلة والمشكلة تسير من السيء إلى الأسوأ، ونفس الشيء يحصل مع مشكلة تغيير مناخ الكرة اﻷرضية ، كل عام يجتمع أكبر العلماء لحل هذه المشكلة ومع ذلك التغييرات في المناخ تسير من السيء إلى الأسوأ بإستمرار ، الجميع يعلم اليوم أن كل شيء في هذا العالم اليوم يسير من السيء إلى اﻷسوأ ولكن ومع ذلك لا أحد يقبل أن يوجه التهمة إلى المنهج العلمي المستخدم اليوم في المدارس والجامعات بأنه السبب اﻷول في ظهور هذه المشاكل وتدهوره نحو اﻷسوأ.
علماء اليوم قاموا بدراسات دقيقة جدا عن تشريح وطريقة عمل الخلايا في دماغ اﻹنسان ، ولكن للأسف يبدو أن علماء الدماغ - وعلماء العصر الحديث بشكل عام - لم يتوصلوا إلى فهم حقيقة طريقة عمل العقل ودوره الحقيقي في تحديد سلوك اﻹنسان وتطور المجتمعات ، لذلك وصلت اﻹنسانية إلى هذا المستوى من الوحشية التي لم تصل إليها منذ كتابة تاريخها حتى اﻵن، ولعل أهم أسباب هذه اﻷزمة التي تعيشها اﻹنسانية على جميع النواحي هو جهل علماء العصر دور القسم الروحي للأمور ، وإحدى هذه اﻷمور هيً دور " اللحظة اﻹلهية الحاسمة " والتي تسمى في اللغة الشعبية بعبارة " القضاء والقدر " عند أولئك الذين يؤمنون بالله ، أو بـ " الصدفة " عند أولئك الذين لا يعطون أهمية للوجود اﻹلهي.
لتوضيح مفهوم مصطلح " اللحظة اﻹلهية الحاسمة " سنعطي في البداية هذا المثال البسيط :
لنفرض أننا في الطريق نقود السيارة ،بقصد الذهاب إلى منطقة معينة ، وكل الذي نعرفه بأن هذه المنطقة تقع في نهاية الطريق ، لذلك فكل ما علينا ان نفعله هو أن نضغط بقدمنا على داعسة البنزين لتسير السيارة لتنقلنا إلى نهاية الطريق ، ولكن فجأة يتبين لنا بأن الطريق يتفرع إلى فرعين وكل فرع من الفرعين يبدو لنا بأنه إمتداد حقيقي للطريق الذي نسلكه ، والمشكلة هنا أن السرعة الكبيرة التي نسير بها وكذلك وجود السيارات اﻵخرى من خلفنا لا تسمح لنا أن نتوقف ونفكر في أي طريق يجب أن نختار لنتابع مسيرنا نحو المنطقة المقصودة ، وهنا نجد أنفسنا بأنه وخلال زمن مدته أجزاء من الثانية يجب علينا أن نقرر إختيار الطريق الصحيح. هذه اللحظة التي لم نحسب لها حساب من قبل ، هي ما أسميها ( اللحظة اﻹلهية الحاسمة )، ﻷن العقل في تلك اللحظة لن يكون له أي دور في اﻹختيار ،والسبب هو كون الفترة الزمنية التي يجب أن يتم فيها اﻹختيار ضئيلة جدا ولن تسمح للعقل التدخل ليقوم بالتفكير و البحث والتحليل لتتم عملية إختيار الشيء المناسب أو اﻷفضل.
عملية اﻹختيار في " اللحظة اﻹلهية الحاسمة " لا تتم بالصدفة كما يعتقد نسبة كبيرة من مفكري العصر الحديث ، ولكن اﻹختيار هنا يحدث عن طريق الروح العالمية ، وهنا يجب أن نشير بأنه هناك نوعين من الروح العالمية ، روح خير عالمية ورح سوء عالمية ، لذلك عملية اﻹختيار هنا تتوقف على روح اﻹنسان نفسه فإذا كان صالحا أو بمعنى آخر كان إنسانا ذو مبادئ سامية وأخلاق حميدة فإن روحه ستكون مرتبطة بروح الخير العالمية وعندها روح الخير العالمية ستختار له الطريق الصحيح ، أما إذا كان اﻹنسان سيء السلوك والتفكير فعندها ستكون روحه مرتبطة بروح السوء العالمية وعندها هذه الروح ستختار له الطريق الخطأ.
أفضل مثال تاريخي يوضح لنا مفهوم " اللحظة اﻹلهية الحاسمة " هو سيرة حياة إسكندر المقدوني. والتي ذكرها الله عز وجل في سورة الكهف " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا " فمن المعروف عن إسكندر المقدوني بأنه بعمر الـ 22 عاما قاد جيشه الذي لا يتجاوز عدده الـ 35 ألف جندي ليخوض معارك ضارية أمام جيوش الدول المجاورة وأهمها جيوش الإمبراطورية الفارسية والتي كان جيشها يتألف من 250 ألف جندي. هكذا خرج إسكندر بجيشه من بلده من دون أي خطة عسكرية أو عمليات تحليلية ومقارنات بين جيشه والجيوش اﻷخرى ولكن كان فقط مقتنعا تماما برأي أمه ( أولمبيادا ) بأن الله قد إختاره هو ﻹنقاذ الشعوب اﻵخرى من ظلم ملوكها وحكامها وأن عليه دور تحقيق السلام العالمي بين هذه الشعوب، فأصبح هذا الدور بالنسبة له هدف حياته اﻷول . هذه هي القاعدة التي إعتمدها إسكندر في كل خطوة من خطوات حياته .
كتب كثيرة كتبت عن سيرة حياة إسكندر والتي أصبحت بعد وفاته إسطورة تناقلتها اﻷجيال عبر اﻷجيال ، ولكن للأسف حتى اﻵن لم يذكر في هذه الكتب شيئا عن المنطق الذي إعتمده إسكندر في إختياراته وسلوكه ، وكثير من المفكرين وبسبب سطحية فهمه م للأحداث ذهبوا وفسروا النتائج الخارقة التي حققها إسكندر في حياته بأنه كان تلميذ الفيلسوف أرسطو ، ولكن من يبحث في مضمون اﻷحداث يرى أن حياة إسكندر بأكملها كانت تعتمد منطق معارض تماما لمنطق إستاذه أرسطو وأن سيرة إسكندر لم تكن إلا آية من رب العالمين للناس أجمعين ليعلموا أن تعاليم إستاذه أرسطو والتي تعتمد على العقل والتفكير المادي فقط، لا تؤمن للإنسان إلا حاجاته المادية ، ولكن المنطق الروحي واﻹيمان هو المسؤول الحقيقي عن جميع أنواع التطورات اﻷساسية التي حصلت في تطور الكون وتطور الحياة والحضارات ،لذلك ليس من الصدفة ان اليونان اليوم( بلاد إسكندر وأرسطو) أصبحت رمزا عالميا لفشل علماء العصر الحديث في إنقاذها ،ﻷن المنهج العلمي الحديث يعتبر أن أرسطو هو الأستاذ اﻷول لكل جامعات العالم بشتى فروعها ، وليس اﻷنبياء أو هرمس أو أولئك الفلاسفة الذين أعطوا الروح الدور اﻷول في كل شيء.
العقل كشيء مادي يحوي في داخله معلومات تم إكتسابها من الكتب المدرسية والخبرات اليومية خلال السنوات التي عاشها اﻹنسان ، وهذه لا تفيد سوى في تأمين الحاجات المادية وأيضا في فهم وتفسير نتائج اﻷحداث التي حدثت في الماضي، أما المعلومات المطلوبة لإختيار ردة الفعل الصحيحة في ( اللحظة اﻹلهية الحاسمة ) فهي موجودة في مستودع الروح العالمية حيث هناك يتم تجميع جميع المعلومات والخبرات التي إكتسبتها اﻹنسانية منذ ولادتها وحتى اﻵن، فإذا كانت هذه الروح هي روح الخير العالمية فإن هذه المعلومات تكون بشكل منسجم ومتوافق ﻹعطاء الإختيار المناسب ليتابع اﻹنسان طريقه في الطريق المستقيم ، أما إذا كانت هذه الروح هي روح السوء العالمية فإن المعلومات والخبرات فيها تكون بشكل عشوائي تجعل اﻹنسان يختار الطريق الذي سيسير به نحو الدمار ، والمقصود هنا بالدمار هو الدمار الروحي الذي سيؤدي باﻹنسان نحو الفناء ، فقد يكون الطريق الذي إختارته له روح السوء فيه ربح مالي أو أنه يحقق له إشباع شهواته الحيوانية ، فهذا الطريق في البداية قد يكون إختيار صحيح بالنسبة للشخص ولكن في الحقيقة هو الدمار الحقيقي للإنسان.
إذا عدنا بأنفسنا إلى الماضي سنجد أمثلة كثيرة عن " اللحظة اﻹلهية الحاسمة " في حياتنا،وسنجد أن هذه اللحظات قد لعبت دورا كبير في توجيه سلوكنا وإختياراتنا التي حصلت دون إستخدام عقولنا بسبب ضآلة او ضيق الزمن الذي تم فيه اﻹختيار. ومن يعود إلى الخواطر اﻷولى من صفحتي ( عين الروح ) التي ذكرت فيه أحداث مختلفة من حياتي سيجد أمثلة عديدة فرضت علي إتخاذ سلوك معين دون ان يكون للعقل أو لدرجة الذكاء أي دور في اﻹختيار.فكثير منا في بعض اﻷحيان قد تؤدي الظروف القاسية أن تظهر أمام اﻹنسان فرصة خاطفة تسمح له أن يقوم بفعل السوء كسرقة أوالغش أو اﻹحتيال ، وهنا نجد أن الروح العالمية تتدخل فإذا كانت روح هذا اﻹنسان مرتبطة بروح الخير العالمية فإن هذه الروح ستجعله يضطرب ويثقل لسانه ويتغير لونه وترتجف يديه ، جميع هذه التغيرات النفسية والجسدية ستجعله يمتنع من إرتكاب فعلة السوء هذه، ﻷنه سيكون متأكدا تماما بأنه إذا فعلها سينكشف أمره مباشرة أمام اﻵخرين، وعندما يهدأ ويعود إلى عقله ليفكر بما كان سيفعله ، فيجد نفسه يحمد الله على إمتناعه من القيام بتلك اﻷعمال وهذا ما سيجعله أقوى في المرات القادمة من أن يقع في مثل هذه الوسوسات. ولكن إذا كان اﻹنسان مرتبط بروح السوء العالمية عندها هذه الروح ستعطيه الشجاعة والحالة النفسية الملائمة للقيام بفعلة السوء ودون أن ينتبه له أحد. وهذا ما سيجعله يعتقد بأن هذه اﻷعمال هي بسيطة ويمكنه القيام بها لتحقيق مرابح مادية بسهولة، وبالتالي سيحاول القيام بمثلها بشكل مستمر.
"اللحظة اﻹلهية الحاسمة " بشكل عام هي كل سلوك عفوي يحدث ضمن ظروف معينة لا يستطيع اﻹنسان فيها إستخدام عقله ليفكر ويبحث ويحلل ليصل إلى خيار معين ، ومثل هذه اللحظات تحدث بشكل مستمر في حياة اﻹنسان ،ﻷن حياة اﻹنسان ليست بسيطة كحياة الحيوانات ولكنها متشعبة جدا ، فمهما كان اﻹنسان بسيطا وبعيدا عن المشاكل والمفاجآت ،تبقى هناك أشياء كثيرة من حوله تؤثر عليه سواء كان في العمل وعلاقته مع زملائه أو البيت وعلاقته مع جيرانه أو أقربائه ، والطبيعة أيضا حوله من مطر وبرد وحر وزلازل وغير ذلك تفرض عليه في الكثير من اﻷحيان أن يجد نفسه يعيش في ( اللحظة اﻹلهية الحاسمة ) حيث العقل عندها لا يستطيع التدخل لحل المشكلة. في مثل هذه اللحظة سيكون الإنسان تحت سيطرة الروح العالمية ، وهي التي ستدفعه إلى القيام بسلوك معين سواء شاء أو أبى ،وبعد فترة من مرور هذه اللحظة ، وعندما يرى نتيجة ما حدث من نوعية سلوكه في تلك اللحظة فقد يجد نفسه أنه كان في قمة الذكاء أو في قمة الغباء ، ولن يصدق نفسه أنه قد فعل ما فعله في تلك اللحظة.
كل سلوك يقوم به الكائن الحي يتم عن طريق الدماغ ،جميع الحيوانات بشكل عام لها أدمغة تعمل على تأمين حاجاتها، ولكن اﻹنسان فقط هو من يرتبط عمل دماغه مع الروح العالمية، وكلما كان عقل اﻹنسان مرتبط بروح الخير العالمية كلما عاد بتفكيره إلى الماضي ليبحث وليحلل نتائج سلوكه ليفهم أين كان على خطأ ومتى كان على صواب. هذه العملية الفكرية التي يسميها البعض "محاكمة الضمير " وكذلك باﻹضافة إلى درجة اﻹيمان هي من اﻷشياء التي تقوم بتقوية الترابط بين روح اﻹنسان مع روح الخير العالمية ، الحيوانات لا تؤمن بشيء ولا تملك ضمير في تكوينها لذلك فهي لا تعود بفكرها إلى الماضي لتبحث وتحلل بما فعلته ، للأسف المنهج العلمي الحديث من خلال الكتب المدرسية ووسائل اﻹعلام والمسلسلات واﻷفلام يدفع اﻹنسان المعاصر ليتحول إلى كائن جديد لا يهمه ما حدث في الماضي ﻷن الماضي ماديا بالنسبة له غير موجود لذلك لا فائدة مادية منه ، وما يهمه هو فقط ما سيفعله في الحاضر ﻷن الحاضر هو فقط له وجود مادي. لذلك فإن أكبر مشكلة يعاني منها اﻹنسان المعاصر هو بأنه أصبح " كائن بلا ضمير " . لذلك تحطمت جميع الروابط التي تربطه مع روح الخير العالمية ، فأصبح كل شيء يفعله في اللحظة الحاسمة له نتيجة سلبية على نفسه وعلى اﻵخرين ، وهذا هو أحد أهم أسباب التدهور العالمي الذي يحدث على جميع نواحي الحياة ، اﻷخلاقية واﻹجتماعية واﻹقتصادية واﻷمنية والسياسية و.. وبشكل عام كل شيء. ﻷن نسبة كبيرة من الناس في كل شعوب العالم فقدت روابطها مع روح الخير العالمية.
طبيعة سلوك اﻹنسان المعاصر اليوم تفرض عليه عدم إعطاء أي أهمية لذلك الجزء من روح الله الذي يكمن في روحه ،لذلك تحول اﻹنسان المعاصر إلى كائن حيواني ، وحسب قانون تطور الحياة الحيوانات ليس لها المقدرة على تصنيع الحضارات ﻷنها لا تملك شيئا في روحها من روح الله ، وطالما أن اﻹنسان المعاصر قد تخلى عن ذلك الجزء من روح الله ، فمن الطبيعي أن نعيش اليوم حالة فناء الحضارات وهذا ما يحصل في الحقيقة.
الله يمهل ولا يهمل ، ومخططه سيسير كما يريده هو. وعندما يفهم اﻹنسان خطأه و بأنه فعلا بدون الله لاشيء ، عندها سيتم التدخل اﻹلهي ،وأدعوا لله أن يتم هذا التدخل اﻹلهي قريبا جدا بإذن الله.
ز.سانا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق