خواطر من الكون المجاور
الخاطرة ٣٢٩ : الفرق بين منطق المهدي ومنطق الأعور الدجال .الجزء ٣.
في البداية أود أن أشير إلى ملاحظة هامة وهي أن المقالة تعتمد على معلومات ورموز تم شرحها بشكل مفصل في مقالات ماضية وهنا نذكرها بشكل مختصر جدا لكي لا يتحول حجم المقالة من (١٠) صفحات إلى (٥٠٠) صفحة .
ذكرنا في الأجزاء الماضية أن الأعور الدجال ليس كائن بشري وإنما هو روح سوء عالمية هدفها عرقلة التطور الإنساني الروحي لمنع الإنسانية من الوصول إلى الكمال ، وأن الحكمة الإلهية قد أشارت إلى جميع صفات هذه الروح بحيث أعطت كل أمة القدرة على معرفة جزء من هذه الصفات (ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب - حديث شريف) ، فهذه الحكمة الإلهية لها معنى أنه بدون توحيد معارف جميع الأمم (توحيد جميع أنواع العلوم) ستقع جميع الأمم في فخ خدعة الدجال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) الحجرات} . في مقالة اليوم سنشرح متى بدأت تظهر روح الأعور الدجال في عصرنا الحديث وكيف استطاعت دخول دور المدارس والجامعات وكذلك دور العبادة من المساجد والكنائس وغيرها ، وكيف تمكنت من السيطرة على سلوك معظم أفراد جميع الأمم . فرغم أن قسم كبير من أولئك الذين يؤمنون بالله ويأخذون حذرهم من الوقوع في خدعة الأعور الدجال ويريدون محاربته عندما سيظهر ولكن في الحقيقة أن قسم كبير من هؤلاء قد أصبحوا من أتباعه وهم لا يعلمون .
حتى نفهم كيف بدأت روح الأعور الدجال في خداع البشرية ، لا بد أولا أن نذكر معلومة عامة هامة جدا وهي أن الدين الإسلامي بما أنه آخر ديانة سماوية لهذا كانت الحكمة الإلهية أن تحمل هذه الديانة أهم معلومة عن صفات هذا الدجال وهي أنه (أعور العين اليمنى) . هذه الصفة تم فهمها في زمن الحضارة الإسلامية بمعناها الحرفي ، وهذا شيء طبيعي لأن الإنسانية في ذلك الزمان كانت تعيش في مرحلة الطفولة وأن نوعية إدراكها ومستوى معارفها العلمية المادية كانت بنوعية ومستوى معارف المرحلة الإبتدائية. ولكن الإنسانية تطورت ودخلت مرحلة المراهقة (حضارة عصر النهضة) ، وهي الآن تعيش مرحلة سن الرشد، حيث مستوى معارفها العلمية وصل إلى مستوى المرحلة الجامعية ، لهذا فمع هذا التطور وجب تجديد مفهوم صفة (الأعور) لتتناسب مع نوعية الإدراك والمقدرات العقلية للإنسان الذي يعيش في عصرنا الحديث ( يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) . ولكن هذا لم يحصل بسبب ظهور روح الأعور الدجال منذ بداية دخول الإنسانية في سن الرشد في القرن التاسع عشر {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) المدثر} .
قبل أن نشرح ماذا حدث في القرن /١٩/ لابد من توضيح المعنى الفلسفي (المعنى الشامل) لصفة (الأعور) : الحكمة الإلهية في خلق الإنسان وهبته عينين : عين يمنى وعين يسرى ، هذا الرقم /٢/ ليس صدفة وإنما حكمة إلهية لها معنى روحي : العين اليسرى وهي رمز الرؤية المادية والعين اليمنى هي رمز الرؤية الروحية . وهنا نستخدم تعبير مجازي ، فالعين في الحقيقة هي جهاز بصري وليس جهاز تحليل وإدراك ، فعملية الإدراك تحصل في الدماغ ، العين هنا هي مجرد رمز لعمل الدماغ . الدماغ ينقسم إلى قسمين : نصف الكرة المخية الأيسر ونصف الكرة المخية الأيمن . القسم الأيسر له وظيفة تحقيق الإدراك المادي (معرفة الشكل) للأشياء والأحداث ، هذا النوع من الإدراك يشمل جميع العلوم المادية (فيزياء ،كيمياء ، رياضيات ، ميكانيك ، هندسة ، طب ...إلخ )والتي وظيفتها تأمين الحاجات المادية للإنسانية. أما القسم الأيمن فوظيفته تحقيق الإدراك الروحي (معرفة المضمون) ويشمل بشكل عام العلوم الإنسانية الروحية (دين ، فن ، لغة ، إجتماع ، تاريخ ، ..... إلخ) ووظيفته تأمين الحاجات الروحية للإنسانية . الإنسان يختلف عن الحيوانات كونه يمتلك الإدراك الشامل حيث يشترك القسمان من المخ معا في عملية الإدراك في فهم الأشياء والأحداث لهذا إستطاع الإنسان شق طريق مختلف نهائيا عن طريق الحيوانات والتي إعتمدت فقط على الإدراك المادي الذي وظيفته فقط تأمين الحاجات المادية . فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمكن تسميته بمخلوق حكيم (فيلسوف) لأن الفلسفة هي فقط ذلك العلم الذي يقوم بتوحيد العلوم الروحية مع العلوم المادية في دراسة الأشياء والأحداث ، وهي فقط التي لديها القدرة على رؤية علاقة الإنسجام والتجانس بين الشكل والمضمون للشيء أو الحدث المدروس وبالتالي يُمكنها فهم حقيقة وجود هذا الشيء أو الحدث وعلاقته بالوجود الإنساني وبالتالي فهم المخطط الإلهي . وإذا تمعنا جيدا في نوعية معارف أولئك الذين ساهموا في ولادة وإزدهار الحضارات القديمة نجد أن معظمهم كانوا فلاسفة كونهم يمتلكون معارف شاملة (روحية ومادية) ولعل أفضل مثال على هؤلاء هو الإمام جعفر الصادق عليه السلام والذي بحسب الكثير من علماء المسلمين أن علمه ومدرسته كانت أساسٌ لكل طوائف المسلمين ، فعدا أنه كان إماما ، وفقيها ، ومتكلما ، وأديبا في علوم الدين والأدب كان أيضا عالم فلك ، وطبيبا وفيزيائيا وكيميائيا . ولهذا ذكرنا في مقالات ماضية أن الإمام جعفر الصادق عليه السلام كان أول مجدد في الدين الإسلامي فهو أول من ساهم في تحويل الحضارة الإسلامية من حضارة روحية إلى حضارة شاملة تبحث في العلوم الروحية والعلوم المادية .
النبي يوسف عليه السلام (أمحوتيب المصري) مؤسس عصر الأهرامات هو أول فيلسوف حقيقي يظهر في تاريخ البشرية حيث تعاليمه إنتقلت عبر الأجيال وعُرفت فيما بعد بأسم (الهرمسية) . هذه التعاليم تعتمد مبدأ (لكل سبب نتيجة ولكل نتيجة سبب ، كلٌّ يحدث حسب القانون . الحظ -الصدفة- هو ليس إلا قانون نجهله حتى الآن) . الصدفة لا مكان لها في قاموس المخطط الإلهي ودور الفيلسوف هو رؤية وفهم علاقة التجانس والإنسجام بين شكل ومضمون الأشياء والأحداث لمعرفة تأويلها ودورها في المخطط الإلهي .
المصريون القدماء وبناءً على تعاليم النبي يوسف وضعوا /٦/ درجات من التعليم يجب أن يجتازها طالب العلم بتفوق ليستطيع الوصول إلى درجة فيلسوف (حكيم) . في الدرجات الثلاثة الأولى يتم فيها إكتساب المعرفة الدينية والروحية وهدفها الحقيقي المحافظة على الفطرة الإنسانية في تكوينه بشكلها النقي . أما الدرجات الثلاثة الثانية فيتم فيها إكتساب المعرفة المادية لتساهم في تحويل الإحساس الفطري من إحساس مجرد إلى إحساس واقعي يمتلك مضمون وشكل ، والمعروف اليوم كمصطلح فلسفي باسم علم الجمال (إستاطيقية) ، هذا المصطلح اليوم -للأسف- يستخدم فقط في الفن . الدرجات المعرفية الستة هي بشكل مختصر كالآتي :
١- الدرجة الأولى : الإستماع إلى شروحات العقيدة الدينية بدون إعطاء أي رأي .
٢- الدرجة الثانية: الإختبار لمعرفة ما فهمه من تلك المواضيع التي سمعها عن العقيدة الدينية .
٣- الدرجة الثالثة: دراسة مفاهيم دورة الحياة (الولادة والحياة والموت والبعث) . هذه الدرجة هي أهم درجة لتحدد فيما إذا كان الطالب يستطيع الإستمرار في متابعة تعليمه أو لا ، فبدون وجود صورة صحيحة عن العقيدة الدينية لدى الطالب لا يمكنه الوصول إلى درجة حكيم (فيلسوف) . لأن الحكمة تبدأ بالإيمان بوجود خالق لأن هدفها الحقيقي هو فهم المخطط الإلهي.
٤- الدرجة الرابعة : بعد تنمية الإدراك الروحي في الطالب تبدأ مرحلة تنمية إدراكه المادي حيث يبدأ فيها الطالب تعلم العلوم المادية المسؤولة عن تأمين الحاجات المادية مثل دراسة النباتات والحيوانات وعلوم الزراعة والري التي تؤمن إنتاج المواد الغذائية ، وكذلك علوم الطب التي تؤمن حماية جسم الإنسان من الأمراض .
٥- الدرجة الخامسة : يتم فيها إكتساب أسس علم الفلك من أجل فهم الكون المحيط بالإنسان .
٦- الدرجة السادسة : يتم فيها إكتساب أسس علم هندسة العمارة (كونها مهنة روحية مادية) والتي من خلالها يتم تحقيق بناء المدينة ومعابدها الدينية بطريقة متجانسة شكلا ومضمونا بحيث تضمن للأفراد المجتمع العيش في بيئة صحية جسديا وروحيا .
٧ - درجة الحكيم : بعد التفوق والنجاح في جميع هذه المعارف (٣روحية ، ٣ مادية) يصل المتعلم إلى مرتبة الحكيم (فيلسوف) الذي يصبح لديه القدرة على تنظيم جميع أنواع المعارف لتعمل جنبا إلى جنب في فهم الأشياء والأحداث وتأويلها لبناء مجتمع متكامل تسوده العدالة والسعادة والإزدهار .
النبي يوسف بهذه التعاليم إستطاع ولأول مرة توحيد مصر العليا مع مصر السفلى بسلام ودون حروب ليجعل هذه المنطقة دولة عظيمة تكون بمثابة المثل الأعلى لجميع الأمم ، ولهذا الآية الكريمة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... (٣)} مذكورة في سورة يوسف وليس في أي سورة أخرى في القرآن الكريم لأن قصة يوسف هي أفضل قصة في تاريخ البشرية . ولكن بعد حوالي /١٠٠٠/ عام من وفاة يوسف وبسبب تخلي ملوك مصر عن تعاليم يوسف يأتي شعب الهيكسوس ويحتل بلاد مصر لمدة حوالي/٢٠٠/ عام فيتدهور وضع البلاد . الشعب المصري في زمن العائلة التي تحمل رقم الرمز الإلهي /١٨/ يثور وينتصر على الهيكسوس . ولكن بدلا من الرجوع إلى تعاليم النبي يوسف لتستعيد مصر مكانتها الحضارية الإنسانية كما كانت في عصر الأهرامات تتحول العقيدة الدينية من عقيدة روحية شاملة إلى عقيدة مادية فقيرة روحيا ، فتحدث ثورة جديدة بقيادة الملكة نفرتيتي (المعروفة بثورة أخناتون) والتي تحاول إعادة تعاليم النبي يوسف . حيث تقوم نفرتيتي بمنع عقيدة تعدد الآلهة وتسمح لعبادة إله واحد فقط وهو إله أتون (إله النور) ، ولكن هذا التصحيح يستمر فقط لحوالي /١٥/ عام عندما يكتشف كهنة آمون أن ابن نفرتيتي (موسى عليه السلام) ليس مصريا ولكن من طبقة العبيد ، فيتم إقناع زوجها الفرعون (أخناتون) بخيانة نفرتيتي للعرش . ويتم عزلها من منصبها . ولكن بعد سنوات قليلة يعود موسى عليه السلام إلى مصر ويحرر جميع أتباع نفرتيتي (أتباع يوسف) . قوم نفرتيتي يخرج من مصر على قسمين : قسم يتجه نحو آسيا وهو قوم موسى والذي سيشكل فيما بعد قوم إسرائيل ثم قوم اليهود . أما القسم الثاني فيتجه نحو أوربا (اليونان بالتحديد) والذي سيتمكن من الإنتصار على الشعب الميسيني هناك وسيشكل فيما بعد الحضارة المعروفة بأسم الحضارة الإغريقية والتي ستكون لغتها لغة الإنجيل . قوم موسى رمزيا يمثل تمثال رأس نفرتيتي التي تظهر به بعين واحدة وهي العين اليمنى رمز الإدراك الروحي ولهذا كانت الديانة العبرية هي أول ديانة سماوية تظهر على الوجود . أما القسم الثاني من قوم نفرتيتي الذي ذهب إلى اليونان فيمثل العين اليسرى أي الإدراك المادي . وهذا الرمز يظهر في الملك فيليب الثاني والد إسكندر المقدوني الذي كان أعور العين اليمنى (الصورة) . إسكندر المقدوني بعمر /٢٠/ عام بعد وفاة أبيه فيليب ، ورغم معارضة إستاذه (أرسطو) وإتهامه له بالجنون بسبب قراره في إحتلال العالم وتحرير شعوبها من الإستبداد بجيش صغير (٣٥ ألف جندي) . ولكن إسكندر أستطاع بجيشه الصغير هذا أن ينتصر على جيوش الفرس (٢٥٠ ألف جندي) ، ويحرر معظم شعوب العالم القديم . الآيات القرآنية عن ذي القرنين في سورة الكهف لها معاني كثيرة أحد معانيها هو رمز لإسكندر المقدوني {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (٨٣) الكهف} . سورة الكهف ترتيبها الرقم (١٨) وهو رقم العائلة الحاكمة في مصر زمن ظهور نفرتيتي ، لهذا السورة تذكر (موسى) مع الخضر ثم تذكر ذي القرنين (إسكندر) ، وهذا ليس صدفة ولكن حكمة إلهية تؤكد على ضرورة التوحيد بين رؤية العين اليمنى (الشعوب الشرقية) ورؤية العين اليسرى (الشعوب الغربية) . لهذا نجد في سورة الكهف أن موسى ابن نفرتيتي الذي يملك رؤية العين اليمنى يعجز عن تأويل ما يفعله الخضر ، ولهذا أيضا كان أسم أخت اسكندر هو (ثيسالونيكي) هذه الأسم لفظيا يتألف من /٣/ مقاطع (ثيس - ألو - نيكي) ومعناه باليونانية (أنت تحتاج إلى نصر آخر) . بمعنى أن النصر الذي حققه اسكندر كان نصف نصر ، وأن النصر الشامل يحتاج إلى وجود العينين الإثنتين معا (اليمنى واليسرى) للحصول على رؤية شاملة (نصر شامل) . اسكندر المقدوني هو في الحقيقة رمز مصغر عن ذي القرنين كونه حقق نصف نصر لقسم من شعوب العالم وبفترة زمنية محددة ، أما ذي القرنين العالمي فهو هابيل (المسيح) الذي سيحقق النصر الشامل في نهاية الزمان لينقذ جميع شعوب العالم من سيطرة روح الأعور الدجال ، ولهذا كان عدد آيات سورة الكهف (١١٠) وهو رقم ترتيب سورة النصر .
أهم إنجازات اسكندر المقدوني والتي لم ينتبه إليها أحد حتى الآن أنه أثبت للناس أجمعين أن أستاذه أرسطو لم يكن فيلسوفا فرغم أن أرسطو كان عالما في عدة علوم مثل الفيزياء وعلم الأحياء وعلم السياسة وعلم البلاغة وعلم الإجتماع وغيرها من العلوم ولكنه رغم ذلك لم يكن فيلسوفا كونه كان يستخدم الرؤية المادية فقط في البحث العلمي وليس الرؤية الشاملة لأن الفلسفة أساسها الأول هو الرؤية الروحية فبدونها تنهار علوم الفلسفة . الفلسفة لها مذهب واحد فقط هو المذهب المثالي الذي يستطيع رؤية المخطط الإلهي ، أما المذهب المادي الذي ينتمي إليه أرسطو (وفلاسفة العصر الحديث) فلا علاقة له بالفلسفة . الفلسفة تبدأ بكلمة الله (الله يهندس في خلقه) هذا هو مبدأ تأسيس المدينة الفاضلة .
قسم كبير من علماء المسلمين في عصر الحضارة الإسلامية كانوا يعتقدون أن إسكندر المقدوني هو ذي القرنين ، ولكن في عصر إنحطاط الحضارة الإسلامية بدأت تزداد الآراء التي ترفض هذا الإدعاء بسبب أن ديانة إسكندر كانت ديانة وثنية وأن أستاذه أرسطو لديه أفكار تعارض الإسلام . هولاء العلماء بسبب جهلهم بمضمون دور إسكندر ، وكذلك بسب جهلهم بالمعنى الحقيقي للفلسفة لم يعلموا أن الديانة الإغريقية وأساطيرها تمثل القسم المادي من قصص الأنبياء في التوراة ولهذا اختار الله اللغة اليونانية لتكون هي اللغة الأصلية للإنجيل . ولم يعلموا هؤلاء أن أهم إنجازات اسكندر المقدوني كانت تحقيق معنى الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)الحجرات} . اسكندر المقدوني نقل المعارف اليونانية إلى شعوب العالم القديم ونقل معارف الشعوب الشرقية إلى اليونان وأوربا . اسكندر لم يكن فقط قائد عسكري ولكنه عدا عن توحيده لمعارف الشعوب ساهم أيضا في نقل الكثير من أنواع الحيوانات والنباتات من مواطنها الأصلية آسيا وأفريقيا إلى أوربا وبالعكس ليسمح للعلماء هناك بدراستها والإستفادة منها . إسكندر المقدوني هو الذي مهد الطريق أمام الشعوب لإستقبال المسيحية والإسلام ولولا وجوده لكانت الحضارة الإسلامية حضارة عوراء . فأسم نبي الإسلام (محمد) خاتم الرسل والأنبياء ، ليس صدفة ولكن حكمة إلهية فهذا الإسم يحمل في داخله رمز العين اليمنى ورمز العين اليسرى . فكلمة (محمد) لفظيا تتألف من مقطعين (مح - مد) ، المقطع الأول هو فعل (محى) ، والمقطع الثاني من فعل (مَدَّ) يعني زاد ، وهذان المعنيان فيهما إشارة إلى دور النبي يوسف الذي عندما ولدته أمه قالت {٢٣ : فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا فَقَالَتْ: «قَدْ نَزَعَ اللهُ عَارِي». ٢٤: وَدَعَتِ اسْمَهُ «يُوسُفَ» قَائِلَةً: «يَزِيدُنِي الرَّبُّ ابْنًا آخَرَ» الإصحاح /٣٠/ سفر التكوين} . فالإدراك المادي (محى) هدفه حذف شوائب الخطيئة من تكوين الإنسان والتي كانت سببا في طرده من الجنة ، أما الإدراك الروحي (مد) فهدفه زيادة صفات ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه الله في تكوين الإنسان .النبي يوسف هو أول من وضع أسس المنهج العلمي الشامل في البحث منذ حوالي /٥/ آلاف عام . ولهذا أيضا الديانات السماوية تنتهي بنبي أسمه (محمد) كرمز للقرآن الكريم الذي معلومات آياته كُتبت برؤية شاملة (... وإنَّ ربَّكم ليس بأعْوَرَ ...... حديث شريف) .
حتى دمار هيكل سليمان عام (٥٨٧ ق،م) كان مفهوم علوم الحكمة (الفلسفة) غامض ومبهم ويتم التعامل معه بشكل فطري ، ولكن مع ظهور الحكماء الثلاثة (كونفوشيوس، بوذا ، بيثاغوراس) بدأت الإنسانية أولى محاولاتها في وضع المبادئ الأولية لهذه العلوم ، فظهر مصطلح (الفلسفة) لأول مرة في اليونان في المدرسة البيثاغورية في الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد . ومنذ ذلك الوقت كانت محاولات الفلاسفة هي الوصول إلى تعريف حقيقي لمفهوم هذا النوع من العلوم ونوعية دوره في فهم الطبيعة والتكوين الإنساني . فنجد في البداية يظهر الفيلسوف أفلاطون (تلميذ بيثاغوراس) ليحدد نوعية النشاط الفكري بنوعية النفس التي تسيطر عليه . فيقول بما معناه : أن السلوك البشري يحدث بسبب النفس التي في داخل الإنسان . وقسَّم النفس البشرية إلى /٣/ أقسام حسب مكان وجودها في جسم الإنسان ، بمعنى أنه قَّسم الرمز الإلهي (١٨) إلى ثلاثة أقسام ( \ / | ) ويمكن تمثيلها بثلاثة خطوط كرمز للألوان الرئيسية للضوء الأبيض (أزرق - أخضر - أحمر) . وهي كالآتي :
١- الرأس : ويكمن فيه الجزء العقلاني من النفس ووظيفته إدراك ومعرفة عالم المُثل العليا ولهذا فهو يعتمد على الحكمة والفضيلة المثالية . وهو القسم الوحيد الخالد في الإنسان .
٢- القلب والصدر : في هذا القسم من النفس يكمن الشعور الإنفعالي بشكله الإيجابي كالصبر والشجاعة واللهفة للدفاع عن المظلوم وعن الوطن .
٣- البطن والأعضاء الجنسية : وفيه تكمن الغرائز الحيوانية ، كحب الطعام وحب التملك والشهوة الجنسية ، لذلك دعى أفلاطون إلى كبح رغبات هذه النفس عن طريق العفة وممارسة الرياضة .
بعد أفلاطون يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلال وصفه للخوارج أعداء الإسلام والإنسانية (يخرج قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية) يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم النفس البشرية إلى قسمين :
١- القسم الأول ما يقع من عظمة الترقوة وما فوقها وهو يشمل الذراعين والرقبة والرأس وهذا القسم يُمثل الرمز (٨) من الرمز الإلهي (١٨) . أي أنه يمثل اللونين (الأزرق والأخضر) وهو المسؤول عن الإدراك الروحي .
٢- القسم الثاني وهو ما يقع تحت عظمة الترقوة من صدر وبطن وأعضاء تناسلية . وهو يمثل الرمز (١) من الرمز الإلهي(١٨) ، أي أنه يمثل رمز اللون (الأحمر) وهو المسؤول عن الإدراك المادي .
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا من خلال هذا الحديث الشريف بما معناه أنه لفهم معاني آيات القرآن الكريم يجب أن نستخدم الإدراك الشامل الذي يجعل العلماء يعتمدون الآيات المحكمات . أما عندما يتم استخدم الرؤية المادية فقط فإن العلماء سيعتمدون الآيات المتشابهات فقط في فهم الإسلام كما فعل الخوارج وهذا سيجعل الدين الإسلامي تحت سيطرة روح الأعور الدجال. وللأسف معظم علماء الدين الإسلامي الذين ظهروا منذ القرن السابع الهجري وحتى اليوم هم من الخوارج وهم لا يعلمون . لهذا دخلت الحضارة الإسلامية في عصر الإنحطاط ومنذ ذلك القرن وحتى الآن لم تستطيع الأمة الإسلامية النهوض لتشكيل حضارة جديدة .
قبل نهاية الحضارة الإسلامية (في النصف الثاني من القرن السادس الهجري) يظهر الفيلسوف ابن رشد في الأندلس وبناءً على ما فهمه من الآيات القرآنية والحديث الشريف عن الخوارج ، يعلن عن نظريته المعروفة بأسم الرشدية (Averroism) والتي تتكلم عن إزدواجية الروح . هذه النظرية الفلسفية أحدثت ضجة في العالم الإسلامي والعالم المسيحي، فقام بعض العلماء المسلمين بالتحريض على آرائه فقاموا بحرق كتبه . وكذلك فعل رجال الكنيسة في أوربا . النظرية الرشدية تقول بما معناه : هناك روح عالمية خالدة ، وروح فردية غير خالدة . المقصود من مضمون هذه النظرية أن روح الله في تكوين الإنسان تكمن في القسم العلوي (الرأس والذراعين) من جسم الإنسان ورمزها كألوان (الأزرق والأخضر)، فهذه الروح هي التي تعتمد الآيات المحكمات والتي تربط الإنسان مع جميع شعوب العالم ليتعاون الجميع مع بعضهم البعض في توحيد روح الله الموجودة في تكوينهم عن طريق توحيد المعارف بهدف الوصول إلى التكوين الإنساني الكامل كما خلقه الله في الجنة لهذا فصاحب هذه الروح هو خالد لا يموت . أما الروح الفردية والتي تكمن في القسم الأسفل من عظمة الترقوة ورمزها اللون (الأحمر) فهي غير خالدة لأنها تعتمد الآيات المتشابهات فهذه الروح إذا سيطرت على سلوك الإنسان ستجعله إنسان متعصب يبحث عن مصالح إنتماءاته الشخصية، بمعنى أنه سيفصل نفسه عن بقية شعوب العالم فهو سيعتقد أن ما ينتمي إليه هو شخصيا كالإنتماء العرقي والإنتماء الوطني والإنتماء الديني والمذهبي وغيرها من الإنتماءات التعصبية هي الأفضل والأرقى ، وأن جميع الأمم الأخرى هي على ضلال . وللأسف معظم المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوسيين وغيرهم وبسبب تعصبهم المذهبي والديني والعرقي والسياسي أصبحوا في عصرنا الحديث من فئة أصحاب الروح الفردية غير الخالدة .
بعد ابن رشد يأتي الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (١٥٩٦- ١٦٥٠) ويقول بما معناه (الإنسان فقط هو من يملك الروح أما الحيوانات فهي بدون روح) . مضمون هذه الفكرة هو أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يحوي في تكوينه جزء من روح الله ، ولهذا الإنسان يملك نوع من الإدراك مختلف تماما عن إدراك الحيوانات ، وهذا الإدراك الإنساني هو الذي سمح له بالتطور في طريق مختلف نهائيا عن تطور الحيوانات ، والذي مكنه من إكتساب نوع خاص من الوعي يسمح له بتطوير العلوم والمعارف لإنشاء الحضارات بهدف الوصول إلى الإنسان الكامل .
في بداية القرن التاسع عشر وبعد إنتهاء عصر النهضة كانت اﻹنسانية تستعد لدخولها في مرحلة سن الرشد كمرحلة جديدة وبنوعية جديدة مختلفة عن مراحل تطورها السابقة ، تماما كالإختلاف بين إنتقال الحياة من كائنات تعيش على اليابسة إلى كائنات لها أجنحة تطير في السماء. ورغم أن علماء وفلاسفة العصور الماضية كانوا قد مهدوا الطريق بشكل تدريجي لتدخل اﻹنسانية في هذه المرحلة إلا أن اﻷمور وبسبب ظهور روح الأعور الدجال في القرن /١٩/ سارت بشكل مناقض تماما .حيث بدأت تظهر آراء علمية وفكرية تستند على حجج قوية كان هدفها الحقيقي هو تشويه كل معلومة أو إحساس يساعد على تقوية شعور اﻹنسان بذلك الجزء من روح الله في داخله ، والذي أدى باﻹنسانية في النهاية دخولها في أكبر خدعة مرت بها خلال تاريخها الطويل ونقصد هنا فتنة الأعور الدجال .
لعل أهم هذه الخدع هي تلك التي أطلقها تشارلز داروين وكارل ماركس . داروين من خلال نظريته عن تطور الحياة التي ظهرت عام ١٨٥٩ في كتابه (أصول اﻷنواع ) والتي كان مغزاها الحقيقي فكرة ( أصل اﻹنسان قرد ) والتي إعتمدت في بحثها على الرؤية المادية فقط حيث قامت بدراسة شكل الكائن الحي فقط وأهملت تماما كل شيء يتعلق بالمضمون المتمثل في السلوك الروحي لهذا الكائن الحي . ورغم أن هذه النظرية لاقت نفورا من قسم كبير جدا من المفكرين في بداية ظهورها ولكن حجج داروين التي اعتمد الشكل وليس المضمون ليدعم نظريته كانت قوية جدا حيث إستطاعت مع مرور الزمن إقناع أغلب العلماء لتصل هذه النظرية إلى شكلها الحالي اليوم حيث يتم تدريسها في جميع مدارس وجامعات العالم . إن فكرة (أصل اﻹنسان حيوان شبيه بالقرد) في ذلك الوقت كانت أشبه بالمفتاح السحري (خالف تُعرف) الذي فتح باب الشهرة والمجد للعديد من المفكرين عن طريق التمرد على القيم والمبادئ الإنسانية .
أما الفيلسوف المزيف كارل ماركس فكان أول الذين إستفادوا من نظرية داروين حيث إستخدم مبادئ نظرية داروين في محاولة إثبات صحة آرائه وأهمها أن الله غير موجود وأن قصص اﻷنبياء المذكورة في الكتب المقدسة ليست إلا مجموعة من الخرافات ، حيث شن هجوما عنيفا ضد اﻷديان وخاصة الديانات السماوية حيث قال عبارته الشهيرة (الدين أفيون الشعوب وزفرة العقول اليابسة). آراء ماركس ونظرية داروين أثارت عواصف إعصارية في المجتمعات الثقافية في تلك الفترة ، فراح رجال الدين والكثير من المفكرين ينتقدون آرائهما ويحاولون الطعن بها ولكن للأسف وقعوا جميعا في ذلك الفخ الذي نصبه لهم ماركس وداروين . فمشكلة ماركس وداروين لم تكن في آرائهما العلمية ولكن في نوعية الرؤية المستخدمة في البحث في الأشياء والأحداث ، فكلاهما كانا في أبحاثهما يعتمدان الرؤية المادية العاجزة عن رؤية المضمون ، لذلك لم يستطع لا ماركس ولا داروين اﻹحساس بوجود روح الله في التكوين الإنساني . فالخدعة تكمن في أنها قد أجبرت جميع منتقدين النظرية الداروينية والأفكار الماركسية على إستخدام نفس هذا النوع من الرؤية الفقيرة ليثبتوا أن الله موجود ، ولم يعلموا أن الله روح وإثبات وجوده يعتمد على الرؤية الشاملة ( إدراك روحي وإدراك مادي ) لتتمكن من رؤية الشكل والمضمون معا. لهذا نجد أن أغلب الذين قرأوا إثباتات الطرفين وجدوا أن آراء ماركس وداروين كانت الأقوى . ومنذ ذلك الوقت وبسبب خدعة داروين وماركس بدأت نسبة الملحدين تزداد يوما بعد يوم ،فأمريكا نفسها والتي كانت من ألد أعداء الماركسية والداروينة نجد اليوم أن نسبة علمائها الذين يؤمنون بوجود الله لا يتجاوز الـ ٢٠% وعددهم يقل مع مرور الزمن باستمرار.
حتى نفهم بشكل أوضح البعد الحقيقي لذلك اﻹنقلاب الفكري ضد روح الله الذي حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بسبب ظهور الفكر الدارويني والماركسية ، لا بد أن نشرح طبيعة التغيير الجذري الذي حصل في الأوساط الأدبية . فحتى تلك الفترة كانت معظم الروايات والمسرحيات لها طابعها الإنساني ، أحداثها وشخصياتها وأسلوب كتابتها كان ينمي في القارئ الشعور بذلك الجزء من روح الله في داخله ، وتنمية هذا الشعور يعني تقوية الشعور باﻵخرين والذي بدوره ينمي ترابط الروح العالمية الذي يحقق إنتصار العواطف السامية واﻷخلاق الحميدة على الغرائز الحيوانية . فتلك الروايات اليوم تعتبر من روائع اﻷدب الكلاسيكي العالمي والتي بفضلها إزدهر فن السينما وطغى على جميع أنواع الفن ، فاﻷفلام التي إعتمدت على مثل تلك الروايات تسمى اليوم بأفلام الزمن الجميل ، وربما أفضل مثال يمكن أن نذكره هنا ليعبر بوضوح عن سمو تلك الروايات ليوضح لنا درجة اﻹنحطاط الروحي الذي حدث بفضل الماركسية والداروينية ، هي الرواية الخالدة (جين يير ) للكاتبة تشارلوت برونتي والتي إضطرت في البداية إلى نشر روايتها بإسم رجل مستعار (كورير بيل) حيث من خلال هذه الرواية جعلت جميع نساء العالم يثقن بأنفسهن ويؤمن بأنهن أقوى بكثير مما يظنه عنهن الرجال، وبأنه سيأتي يوم تأخذ فيه المرأة كامل حقوقها لتلعب دورها الحقيقي في تطوير المجتمع اﻹنساني ليتحول إلى مجتمع نظام شامل (إنثوي وذكوري) وليس نظام ذكوري فقط قاسي يعتمد أساسه على القوة الجسدية فقط . فرغم أن حياة الكاتبة كانت لوحة من اﻵلام وقساوة القدر عليها، لم تيأس فذهبت وألفت روايتها وجعلت من بطلة روايتها اليتيمة (جين) تعاني هي أيضا منذ طفولتها من سوء المعاملة والحرمان والقهر وقسوة الناس من حولها ولكن وبرغم ذلك بدلا من أن تجعل القارئ يحقد على الجنس البشري بسبب ما ذاقته من عذاب نجدها بإسلوبها المرهف في وصف مشاعر بطلتها ووصف الطبيعة من حولها ، جعلت القارئ يشعر بروح الطبيعة وكأنها تتحد مع روح بطلة الرواية فتعطيها قوة الصبر لتتحمل كل ما تعانيه من ظلم وحرمان فيجد القارئ نفسه يتعاطف معها بطريقة ساحرة تجعله يشعر ويرى كم أن الإنسان هو مخلوق وديع وكم أن المرأة هي كائن راقي . لو إستطعنا ترجمة رواية (جين يير) إلى ألوان وخطوط ربما نحصل تماما على نفس إحساسات لوحة موناليزا (جوكندا) لليوناردو دافنشي ، ففي كلتا البطلتين (جين وموناليزا ) اﻹبتسامة نفسها ، إبتسامة ألم ولكن في الوقت نفسه هي إبتسامة تعبر عن روح سامية ، روح مليئة بالأمل والمحبة والتسامح ، والتي من أجل الوصول إلى هذا المستوى العالي من السمو الروحي إحتاجت اﻹنسانية جهد آلاف السنين من النشاطات الفكرية والدينية والفلسفية .
للأسف الماركسية والداروينية سمحت لأشخاص منحطين روحيا، مناقضين تماما للكاتبة شارلوت برونتي صاحبة رواية (جين يير ) ولليوناردو دافنشي ، بالظهور على الساحة اﻷدبية والفنية ، ففي الساحة اﻷدبية أفضل مثال على الآنحطاط الروحي هو الكاتب (أميل زولا)، وللأسف من يقرأ اليوم آراء النقاد عن روايات هذا الكاتب قد لا يشعر بهذا الإنحطاط ﻷن عقول الكثير من المفكرين اليوم قد وقعت في فخ خدعة الأعور الدجال أثناء دراستهم في المدارس والجامعات فجعلتهم لا يفرقون بين القاتل والضحية وبين الحضاري والهمجي. فنجد أحد النقاد العرب يكتب عن أميل زولا قائلا " شجاعة فكرية ونصاعة التعبير فرض زولا نفسه واحدا من حماة الحقيقة والحرية عبر الكتابة" فمثل هذا الكلام والتشبيه هو دليل واضح بأن خدعة ماركس وداروين قد نجحت على جميع المستويات الفكرية . فالحقيقة هي أن أميل زولا هو الذي جعل حرية التعبير (الديمقراطية) سلاح في يد كل إنسان منحط روحيا وكل فاسق شاذ أن يكتب ما يشاء دون أي ضمير يردعه أو يحاسبه على ما يكتب فتحول الفن واﻷدب بفضل حق حرية التعبير إلى عنف ووحشية ودعارة . فأميل زولا كان قد تأثر بشدة بآراء داروين العلمية فكان يستخدم بنود النظرية لتكون حجة تساعده على كتابة كل ما يشاء ويعلل أسلوبه الذي جعله في تلك الفترة من الأدباء الرجعيين أو المثقفين غير الوقورين، بأنه يكتب بأسلوب علمي يصف الواقع اﻹجتماعي بدقة بدون أي تجميل. أنظروا مثلا إلى إحدى حوارات بطلات رواياته ( السكير ) في هذا الحوار نقرأ " إن المنطقة كلها تعيش في حمأة من الجنس، الرجال والنساء واﻷباء واﻷبناء والبنات يعيشون كالحيوانات فيتمرغون في الوحل ، ليس فيهم رجل واحد نظيف أو إمرأة واحدة شريفة ، رائحة الجنس تفوح من كل بيت ، الفقر يكوم الرجال على النساء في إستهتار غريب ، ولو أنك صنعت من هؤلاء الرجال والنساء خليطا ،لحصلت على كمية من الروث تكفي لتغطية شوارع باريس بأكملها".
الفن هو تعبير الروح ، فلوحات ليوناردو دافنشي ورواية (جين يير) هي تعبير روحي للقسم الأعلى من جسم الإنسان ، أما جميع روايات أميل زولا فهي تعبير روح القسم السفلي من تكوين الإنسان ( البطن والأعضاء الجنسية) ، فهي تبحث في كل شيء قذر، في كل شي منحط . فعناوين أهم رواياته تدل على محتواها : الوحش داخل إنسان. ..الوحش البشري. .. السكير. ..غانية باريس... أبطال رواياته ومعظمهم من النساء جميعهن بلا ضمير و شخصيات مضطربة سلوكهن أقسى من الرجال وكأنهن قردة وضع في رأسهن ذكاء إنسان فرأين كم أن اﻹنسان هو أفضل منهن لهذا رحن ينفثن سموم حقدهن عليه وعلى مبادئه السامية وعواطفه النبيلة ، غرائزهن الحيوانية تسيطر على كل خطوة من سلوكهن جرائم قتل.. إنتقام ..خمر.. زنا.. عنف. .خداع... كذب. ..نفاق.. فسق.. عالم مقرف ودراما مظلمة تجعل القارئ يحتقر إنسانيته ليشعر بأن أصله فعلا قرد وأن في أعماقه لا يوجد إلا الفوضى والفراغ ،وأنه لا وجود لروح الله في هذا الفراغ. فليس من الغرابة أن أشهر أقوال أميل زولا كانت " لن تكتمل الحضارة حتى يسقط آخر حجر في آخر كنيسة على رأس آخر قسيس " بمعنى آخر أنه حسب رأيه الطريق إلى السعادة اﻹنسانية مشابه تماما لرأي ماركس لا تتحقق إلا بالقضاء على جميع الديانات أو بمعنى أدق القضاء على روح الله في كل إنسان ليتحول إلى قرد بشري .
أما على الصعيد الفني فنجد (بول سيزان) الصديق الحميم ﻷميل زولا قد قام بدوره على أكمل وجه في محاولة القضاء على روح الله من خلال الفن التشكيلي ، فبينما كان فن عصر النهضة يمثله أسلوب ليوناردو دافنشي حيث رهافة اﻹحساس وسمو المشاعر ، والذي من خلال جمال إنسجام الخطوط مع إنسجام اﻷلوان يجعل اللوحة تبدو كلعبة بين الضوء والظل في ملامح وجوه اﻷشخاص وفي عناصر الطبيعة في اللوحة بحيث تجعل هذه الإحساسات تنتقل إلى روح المشاهد لتجعله هو أيضا يشارك في موضوع اللوحة لتتحول هذه المشاعر إلى خليط يبعث في نفس المشاهد الشعور بعظمة الخالق في التكوين الجسدي والروحي للإنسان والطبيعة. هذه المشاعر الدافئة في اﻷعمال الفنية ساعدت على ظهور التيارات الفكرية اﻹنسانية التي راحت تدافع عن حقوق الأطفال وحقوق النساء وحقوق اﻹنسان بغض النظر عن عرقه أو لغته أو دينه ، وهي التي أعطت عصر النهضة طابعه الحضاري واﻹنساني ليسمى بأسم (عصر التنوير) . ولكن في القرن التاسع عشر نجد بول سيزان تحت تأثير آراء صديقه الحميم أميل زولا وأيضا تحت تأثير ذلك المناخ الروحي العفن الذي صنعه داروين وماركس ، نجده يحاول أن يعطي في لوحاته الوجه القبيح للإنسان والطبيعة ، تماما كما فعل صديقه أميل زولا في رواياته . فرغم رفض معرض أكاديمية الفنون التشكيلية في باريس لعرض لوحاته بسبب وحشية أسلوبها التعبيري الذي يظهر فيها من خلال سوء مهارته في الرسم وقتامة ألوانها وسوء إنسجامها مع بعضها البعض . ولكنه بدل أن يهجر مهنة الفن أو يغير من أسلوبه الفني نجده ينصاع لنصيحة صديقه أميل زولا ليبقى مصرا على إسلوبه فيرسم ويرسم لسنوات طويلة . وعندما وصل تأثير داروين وماركس وأميل زولا إلى مرحلة إستطاعوا فيها تغيير ذوق ومشاعر عدد كبير من المفكرين نجد لوحات بول سيزان شيئا فشيء بدأت تظهر في المعارض لتأخذ مع الزمن الصدارة. وهكذا تحول بول سيزان الذي كان من مرتبة الفنانين المنبوذين إلى أشهر فناني عصره واليوم بول سيزان يُعتبر الأب الروحي للفن الحديث وأعماله تدرس في جميع كليات الفنون الجميلة وفي جميع أنحاء العالم. ولعل أشهرها لوحة ( التفاح ) والتي قال عنها عبارته الشهيرة (بتفاحة سأدهش باريس) ، وللأسف فتفاحة الجنة أخرجت اﻹنسان من الجنة ، أما تفاحة سيزان فمنعت اﻹنسانية من دخول جنة اﻹنسانية (سن الرشد) التي مهدت لها حضارات آلاف السنين .
روح اﻷديب الروسي فيودور ديستوفسكي شعرت بذلك الهجوم العنيف الذي بدأ يحدث من جميع الجهات ضد روح الله في التكوين الإنساني فذهب وكرس كل ما يملك من معارف فلسفية ودينية ونفسية وبراعة في الصياغة اﻷدبية ليكتب روايته الخالدة " اﻷخوة كارامزوف " لتكون بمثابة جرس إنذار يدق بأعلى صوته ليستيقظ المثقفون ليروا حقيقة ما يحدث ، حيث ذكر فيها عبارته الفلسفية الشهيرة " إن لم يكن الله موجود فإن كل القيم واﻷخلاقيات تسقط عن نفسها ويصبح كل شيء مباح من أصغر الذنوب إلى أبشع الجرائم ". ورغم أن الكثير من المثقفين فهموا قصده في ذلك الوقت ولكن للأسف لم تُسمع أصواتهم . فبفضل داروين وماركس وزولا وسيزان إختفت الفلسفة من المنهج العلمي فتحول إلى منهج علمي مادي بحت ( منهج الخوارج) ودخل هذا المنهج إلى جميع دور التعليم بكافة أنواع علومها بما فيها العلوم الإنسانية (دين ، تاريخ ، إجتماع ، فنون ، أدب) وفي جميع شعوب العالم .
اليوم نجد الإنسانية قد إنقسمت ثلاثة أقسام : الأول يؤمن بوجود الله ولكنه يعتمد إدراك بمستوى إدراك طالب في المرحلة الإبتدائية كونه يصر على إعتماد أراء السلفيين كما هي وبدون أي تجديد والتي مضى عليها أكثر من /٨٠٠/ عام في تفسير النصوص الدينية . فكانت نتيجة هذا الركود الفكري الديني ظهور أمثال حزب الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش وغيرهم . أما القسم الثاني فهو يؤمن بالله ولكنه يؤمن بصحة المنهج العلمي الحديث (منهج الأعور الدجال) ويحاول تفسير النصوص الدينية بناء على منطق هذا المنهج وبدلا من تجديد معاني النصوص الدينية خلقوا نوع من الفوضى ونوع من الشك في صحة هذه النصوص . أما القسم الثالث وهو الذي لا يؤمن بوجود الله ويحاول رش الرماد أمام عيون الآخرين لتبدو لهم الأمور وكأن الإبتعاد عن الدين هو الذي حقق تلك الإنتصارات في الإكتشافات العلمية المادية والإختراعات والتكنولوجيا . بحيث جعل معظم أفراد جيل الشباب يقتنع بأنه يعيش في عصر المعجزات . فكانت النتيجة لظهور هذه الأنواع من الثلاثة من البشر تحول اﻹنسان المعاصر من إنسان يحوي في داخله جزء من روح الله إلى إنسان حيواني من أتباع الأعور الدجال ، متقدم جدا في العلوم المادية ولكنه منحط أخلاقيا وأعمى البصيرة . فرغم ظهور روح أعور الدجال في العصور الماضية ولكن اليوم ولأول مرة في تاريخ البشرية وبسبب سهولة وسرعة التواصل بين الشعوب ، إستطاعت هذه الروح خلق ظروف روحية عالمية دمرت بنية عالم الطفولة الفطري ، وأدت إلى ولادة ظاهرة لم يعرف التاريخ مثلها من قبل وهي ظاهرة (الطفل المجرم) . حيث أصبح كل طفل يجرؤ ويحاول التشبه بصفات أخلاق الأنبياء نجده يتعرض لحقد زملائه وسخريتهم ، فيتنمروا عليه ويجعلوا ساعات دوامه في المدرسة أشبه بساعات يعيشها في جهنم . هذا العذاب النفسي والجسدي الذي يعاني منه هؤلاء الأطفال وكذلك بسبب المنهج المادي الذي تم به تأليف كتبهم المدرسية والبرامج والمسلسلات التلفزيونية راح ينمي الحقد والكراهية في داخل هؤلاء الأطفال وبدون إرادتهم ليجعل ردة فعلهم على المجتمع عندما يكبرون قاسية جدا فبدلا من أن يساهموا في إصلاح المجتمع ونشر تعاليم الدين الصحيح نجدهم قد أصبحوا - دون علمهم - من أتباع الأعور الدجال يساهمون هم أيضا في نشر التعصب والفتنة والعداوة بين الأديان والمذاهب وبين الشعوب...... فتنة الأعور الدجال أعقد بكثير مما يظن علماء الدين .... والله أعلم ..... يتبع .
ز . سانا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق