خواطر من الكون المجاور
الخاطرة ٢٢٠ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢١
الخاطرة ٢٢٠ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢١
ربما بعض القراء من مذهب السنة بعد قراءتهم للأجزاء الأخيرة من السلسلة قد ساورهم الشك في حقيقة هدفها وربما ظنوا أنها تحاول تشييع المسلمين ، وشكوكهم هذه هي ردة فعل طبيعية فمن يتابع ما يُنشر في الانترنت والتواصل الإجتماعي في الفترة الأخيرة سيجد الكثير من المواقع تتكلم عن خطورة ظاهرة حديثة في البلدان الإسلامية يسمونها (التشيع) ، وكما ذكرت في المقالة الماضية أن الأزهر قام بعمل برنامج ديني يحمل عنوان (الأزهر ضد التشيع) . ففي الفترة الأخيرة فعلا يوجد عدد كبير من علماء السنة بدأوا يتكلمون عن بعض محاسن مذهب الشيعة وعن بعض مساوئ مذهب السنة ، وهذا الأمر قد أحدث نوع من سوء فهم لآراء هؤلاء المفكرين . فظهور آراء هؤلاء هو شيء طبيعي أن يحدث بعد الإنفتاح العلمي وخروج دور التعليم من سيطرة الشيوخ .
فعصر النهضة الأوروبية مثلا حصل بسبب تحرر دور التعليم من سيطرة الكنيسة إلى العقول الحرة المفكرة التي وضعت حقوق الإنسان ومبادئه السامية فوق كل شيء ، فالله عز وجل وهب الإنسان الدين ليس من أجل أن يعبد الدين نفسه ، فالعبادة لله وليس للدين ، لأن الدين هو وسيلة تساعد الانسان في التحرر من روح السوء التي تنمي الرغبات الحيوانية فيه التي تجعله يهتم فقط في مصلحته وسعادته الشخصية ، وفي الوقت نفسه يهدف الدين إلى تنمية حب الآخرين والتعاون معهم من أجل الوصول إلى الكمال الروحي . ولكن الذي حصل في العصور الوسطى في الأمة الأوروبية أن رجال الكنيسة عبدوا الدين وأهملوا حقوق الإنسان في الإبداع الفكري الذي هو أساس التطور الروحي فدخلت الأمة الأوروبية في عصور الظلام الفكري والديني والاجتماعي ، وهكذا هو تماما ما حصل في عصر إنحطاط الامة الاسلامية وما يحصل اليوم ، حيث نجد حقوق المسلم كمواطن في معظم الدول الاسلامية في أسفل السافلين .هنا قد يعارضني البعض ويقول بأن سبب انحطاط الدول الأسلامية ليس الشيوخ المسلمين ولكن السياسيون والحكام . وجوابي على هؤلاء هو أن الرجل الحكيم هو الذي ينظر إلى الكبار على أنهم في بدايتهم كانوا أطفالا ، فإذا تحول هؤلاء الأطفال في كبرهم إلى نصابين ومحتالين ، فالسبب لا يتعلق بهم فقط ولكن يتحمله أيضا المجتمع بأكمله ، والشيوخ وعلماء الدين يتحملون القسم الأكبر من الجريمة التي تقع بحقوق الأطفال فالأطفال هم كائنات روحية والبيئة الروحية للمجتمع تقع تحت سيطرة نوعية المعلومات الروحية التي ينشرها الشيوخ فهذه المعلومات هي التي ستحدد سلوك الروحي للكبار والذين بدورهم سيحددون طبيعة المجتمع التي ستؤثر على الأطفال وتحدد جهة نموهم الروحي . ولكن هنا أيضا يجب أن نعطي بعض الحق لهؤلاء العلماء والشيوخ ، فهم أيضا كانوا أطفالا وعلومهم ومعارفهم قد أخذوها ممن سبقوهم ، والظروف من حولهم هي التي منعتهم من البحث عن الأصح والأفضل . لهذا الرجل الحكيم هو الذي لا ينسب أخطاء المجتمع إلى أشخاص محددين ولكن ينسبها إلى روح السوء بشكل عام فهي التي تحاول دوما دخول نفوس الناس من طريق لا يمكن لأحد توقعه لتنمي فيهم حب الذات سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الجماعي وذلك عن طريق تنمية التعصب لفئة معينة وبغض الفئة أخرى. ولهذا كان الصبر والتسامح وحب الخير للآخرين من أهم تعاليم الديانات لأنها هي فقط تحل المشاكل مهما كان نوعها.
لا أحد ينكر أنه في الفترة الأخيرة يوجد نوع من نشر التشيع ، ولكن يجب علينا أن نفرق بين الآراء التي تبحث عن الحقيقة في النصوص الدينية والتاريخية والتي رأت أنه هناك بعض الظلم في حق الشيعة ، وبين الآراء ذات الأغراض السياسية (التشيع السياسي) ، فالفتنة تحدث عندما تتدخل السياسة في الأمور الدينية والفكرية ، وهناك لا نقصد بالسياسة كمعناها العام أي رجال السياسة فقط ، ولكن المقصود بها هم جميع أولئك الذين يستخدمون الدين لأغراض معينة تحفظ لهم مصالحهم الشخصية سواء كانت فردية أو جماعية ، فالعالم الديني الذي يدافع عن مذهبه بتعصبية ويهاجم بقية المذاهب بأسلوب ساخر وحاقد هو في الحقيقة رجل سياسي وليس رجل دين . وللأسف فإن الأمة الاسلامية بأكملها منذ دخولها في عصر الإنحطاط وحتى اليوم تقع تحت سيطرة الاسلام السياسي وليس الاسلام الديني . لهذا فإن معظم المسلمين منذ ذلك الوقت وحتى الآن هم مسلمون بالهوية فقط وليس بالإيمان ولهذا السبب هجرهم الله .
وحتى نوضح هذه الفكرة سنشرح تلك الظروف التي ساهمت في ظهور الاسلام السياسي وتطوره عبر الزمن . ولكن قبل أن نتابع الموضوع يجب أن نذكر ملاحظة هامة جدا وهي ان الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف يقول «الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ تكون مُلكًا عضوضاً» ، هذا الحديث يعد معجزة من معجزات النبي لان فيه وصف دقيق لما سيحصل لمدة ثلاثين عاما بعد وفاته . فالحديث الشريف يؤكد على شريعة الخلفاء الراشدين فإذا كانت قد حصلت بعض الأخطاء في تلك الفترة فأمرها لله تعالى فقط فهو أعلم العالمين لما حصل ، وكما تقول الآية القرآنية في سورة البقرة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ .١٣٤) ، لهذا مقالاتي لا تبحث في تفاصيل فترة الخلفاء الراشدين ولكن تبحث من فترة استلام الملك العضوض للحكم وما بعده .
في البداية يمكننا أن نقول أن المؤسس الرئيسي للاسلام السياسي هو معاوية بن أبي سفيان الملك العضوض المذكور في الحديث الشريف ، فكما تذكر الروايات أن معاوية قد تنبأ له أبواه منذ الطفولة بمستقبل كبير، فروي أن أبا سفيان نظر إليه وهو طفل فقال: «إن إبني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه»، فقالت أمه هند: «قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة.» ، ورواية أخرى «كان معاوية يمشي وهو غلام مع أمه هند فتعثر فقالت قم لا رفعك الله ، وكان هناك أعرابي ينظر إليه فقال لها لم تقولين له ذلك فوالله إني لأظنه سيسود قومه فقالت لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه.» . معاوية تم تربيته على أنه إنسان عظيم يستحق أن يكون القائد الأكبر بين الناس . لهذا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حاول بشتى الوسائل تحقيق هدفه وكونه كان شديد الذكاء أستطاع اقناع بعض أفراد بني أمية في غرضه ، فصنع معهم الكثير من الظروف لخلق الفتن بين المسلمين ليستخدمها ضد علي عليه السلام ليمنعه من الوصول إلى الخلافة ، ثم حرض المسلمين عليه بحجة القصاص من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فحدثت معركة الجمل ومعركة صفين ثم مقتل علي عليه السلام. في فترة ظهور الاسلام كان المسلمون على طبقتين طبقة الأغنياء سادة قريش وطبقة الفقراء ،لهذا كان من الطبيعي أن تذهب الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لأنهم كانوا من سادة قريش ، فقانون نظام المجتمع الجاهلي الطبقي كان لا يزال يحكم نفوس المسلمين ومن المستحيل أن يقبل المجتمع بالتسوية بين الغني والفقير ، لهذا معظم الصحابة كانوا يرفضون مبايعة علي عليه السلام لأنه كان خالي تماما من شوائب المجتمع الجاهلي فهو تربية الرسول وليس تربية المجتمع الجاهلية ، ولهذا كان علي عليه السلام من طبعه ألا يفرق بين الفقير والغني . لذلك نجد أنه عندما تولى الخلافة قام بإجراءات اقتصادية حيث منح الكثير من الفقراء مساعدات مالية للقيام بأعمال تجارية وحرفية صغيرة .
هذه الصفة في علي عليه السلام استغلها بني أمية لخلق ظروف تمنع من ذهاب الخلافة إلى علي أو أبناءه عليهم السلام ، فالذي حصل بعد استلامهم للسلطة ولأنهم كانوا يعلمون تماما بأن طريقة وصولهم إلى السلطة كان نتيجة مؤمرات خبيثة وأن الكثير من المسلمين كانوا يعلمون بها وسيجعلوها نقطة سوداء في تاريخهم قد تكون نتيجتها قيام الثورات عليهم ، فبني امية كانوا يعلمون أن ذهاب السلطة إلى آل أهل البيت الذين كانوا بالنسبة لهم عدوهم اللدود ، سيعني أن الامة الاسلامية بأكملها ستعلم حقيقة بني أمية وأنها ستحمل الحقد عليهم وستنهي مجد بني أمية إلى الأبد . لهذا ذهب بني أمية وصنعوا أسطورة خرافية تطعن في أهل البيت وروجوا لها بين المسلمين لينزعوا منهم محبة آل أهل البيت وفي نفس الوقت ليعطوا لأنفسهم شرعية الخلافة . هذه الأسطورة الخرافية معروفة اليوم باسم (السبئية) .
الفرقة السبئية كمذهب ظهرت في فترة بداية الدولة الأموية بين الناس البسطاء ورغم أنها اختفت بعد فترة قصيرة ولكنها ظلت موجودة في عقول المسلمين فثارت إهتمام كثير من العلماء ودفعتهم الى التحدث عنها وذكرها في كتبهم مما جعلها تلعب دور كبير جدا في تمزيق الأمة الاسلامية حتى أصبحت جزء من تاريخ الأمة الاسلامية حتى يومنا هذا. ولكن بعد الانفتاح العلمي الذي حدث في الآوانة الأخيرة وعندما بدأ المفكرون المسلمون بمختلف أختصاصاتهم يبحثون عن حقيقة تاريخ الأمة الاسلامية بفكر حر ، وبسبب كثرة التناقضات في الروايات المتعلقة بالفرقة السبئية ، كثير من هؤلاء المفكرين لم يقبلوا بوجود هذه الفرقة كحقيقة تاريخية وأكدوا على أن الفرقة السبئية ليست إلا أسطورة صنعها أتباع مذهب السنة والجماعة فقط للطعن بحقيقة أصل المذهب الشيعي . في هذه المقالة سنحاول عرض موضوع السبئية برؤية مختلفة تسمح لنا معرفة حقيقة هذه الفرقة .
أسطورة فرقة السبئية بشكل مختصر : هي فرقة أسسها شخص من أصل يهودي يدعى عبدالله بن سبأ ، أسلم زمن عثمان بن عفان، وأخذ يتنقل في بلاد المسلمين. فبدأ بالحجاز ثم البصرة ، ثم الكوفة، ثم ذهب إلى الشام ولكن هناك طردوه فذهب إلى مصر واستقر بها، ووضع عقيدتي الوصية والرجعة، وكوّن له في مصر أنصاراً. استمر في مراسلة أتباعه في الكوفة والبصرة. وفي النهاية نجح في تجميع جميع الساخطين على عثمان فتجمعوا في المدينة وقاموا بقتل عثمان. لعب عبد الله بن سبأ دوراً هاماً في بدء معركة الجمل، وإفشال المفاوضات بين علي بن أبي طالب وبين طلحة والزبير. كما أنه أول من أظهر الغلوّ في أئمة أهل البيت وادعى الألوهية لعلي.
الروايات عن عبد الله بن سبأ كثيرة جدا وجميعها تعاني من كثرة التناقضات في المعلومات عنه . فتارة هو من أهل صنعاء، وتارة من أهل الحيرة ، وتارة أسلم أيام عثمان وتارة أظهر الإسلام ولم يحدد وقت إسلامه . تارة أن علي عليه السلام قتله وتارة انه لم يقتله ولكن نفاه إلى مصر ، وتارة نجده يدعي الرجعة للنبي، وتارة يدعي الرجعة لعلي . تارة يدعي بأن في علي جزءا من الألوهية وتارة يدعي أن علي إله كامل . وتارة نجد ان لقبه (ابن السوداء) وتارة نجد أن لقب ابن السوداء هو عمار بن ياسر (الذي كان يشتمه الأمويون وقريش بعبارة ابن السوداء معيرين إياه بسواد أمه سمية)، فما نسبوه لعمار من مواقف نجدهم ينسبونه لعبد الله بن سبأ وكأنهما شخص واحد ، وتارة نجد عبد الله بن سبأ يكون داعيا لفضل علي فقط وتارة أخرى نجده يكون محرضا على عثمان وواضعا لأهم عقائد الشيعة من وصية وعلم غيب للأئمة وقول بالرجعة .
الأسطورة السبئية ظهرت بعد وفاة علي عليه السلام، وإذا تمعنا جيدا في هذه الروايات المتناقضة مع بعضها البعض عن عبد الله بن سبأ ، وحاولنا أن نضعها بجانب أحداث التاريخ الاسلامي سنجد أن الذين آمنوا بها في البداية هم فقط أصحاب العقول الضعيفة الذين عاشوا في مناطق بعيدة عن الكوفة مكان تواجد آل أهل البيت ، ولكن الذي حصل أن ترويجها وانتشارها الكبير في مجتمع الاسلامي هو الذي دفع العلماء المسلمين بعد مرور سنوات عديدة على ظهورها لطرحها والبحث فيها لتظهر في الأخير وكأنها حقيقة وليس أسطورة ، وأن الهدف الحقيقي من وراءها هو إخفاء حقيقة بني أمية وإقناع المسلمين بأن فرقة السبئية (التي هي من الشيعة) هي التي حرضت على قتل عثمان ، ليظن أتباع مذهب السنة أن يهوديا حاقدا على الاسلام هو السبب الأول للفتنة وأن الشيعة انساقوا معه بغباء ليساهموا هم أيضا في تمزيق الأمة الاسلامية . فبهذه الاسطورة الخرافية حاول أتباع بني أمية أن يقنعوا مسلمي السنة بأن المؤسس الحقيقي لمذهب الشيعة هو اليهودي عبد الله بن سبأ وأن عقائد هذا المذهب ليس لها أي سند من الإسلام . وأن عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وأنه فعل ذلك لأن علي عليه السلام أمره بذلك . وأن عقيدة المهدي ورجعته هي من عبد الله بن سبأ الذي كان يدعي النبوة وزعم أن علي عليه السلام هو الله وأنه لم يمت وهو المهدي وأنه سيعود ليسوق العرب بعصاه وليملك الأرض جميعها ليحكمها بالعدل . فكان هدف هذه الأسطورة دفع محبي أهل البيت في تصديق هذه الأمور واتخاذها كعقيدة في إيمانهم .لهذا نجد أن الإمام الثامن علي الرضا عليه السلام يقول : يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :أَحَدُهَا : الْغُلُوُّ. وَثَانِيهَا : التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا. وَثَالِثُهَا : التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا. فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا "
إن سبب تحول هذه الاسطورة الخرافية إلى حقيقة واقعية هو أن أكبر مشكلة يعاني منها العلماء المسلمين منذ ٨٠٠ عام وحتى اليوم هي شدة جهلهم بعلم النفس ومبادئه . فرغم أن أختصاصهم علوم دينية والدين هو هبة من الله عز وجل لمساعدة الإنسانية في تطوير تكوينها الروحي ، ولكن ومع ذلك نجد أن العلماء المسلمين حتى اليوم ينظرون الى الإنسان على مر العصور وكأنه له نفس التكوين الروحي ، وكأن الطفل لا يختلف نهائيا عن الشخص البالغ ، ولكن في الحقيقة الامر مختلف تماما ، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع في المقالات الماضية بشيء من التفصيل وذكرنا أن فترة الحضارة الاسلامية هي بمثابة المرحلة الأخيرة من فترة الطفولة ، لهذا قبل أن نبحث ونحلل في سلوك الأمم السابقة يجب أن نعطي أهمية كبيرة لزمن الأحداث التي حدثت فيها لنحدد موقعها من مراحل التطور وكذلك علينا أن نعطي أهمية لمكان ظهورها هل هي في الشرق أم في الغرب لأن امم الشرق دورهم تطوير الروح وأمم الغرب دورها تطوير النواحي المادية . فقط بهذه النوعية من البحث نستطيع فهم سلوك أفرادها وعلماءها . فإذا قارنا أحداث الأسطورة السبئية مع الواقع الحقيقي الذي كان عليه في عهد عثمان وعلي ، سنجد أنه من المستحيل حدوثها لأن مسلمي تلك الفترة كان فيهم التعصب الجاهلي نحو عقيدتهم الاسلامية ، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلا كان إذا رأى أحدا يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ردة فعل عمر مباشرة أن يطلب من الرسول أن يأذن له بقطع رأسه ، هكذا كانت ردة فعل معظم مسلمي تلك الفترة ، لهذا فمن المستحيل ان يتجرأ شخص يهودي يدعي الاسلام ان يقول لعلي عليه السلام أو للمسلمين أن عليا هو إله، لأن ردة فعل المسلمين ستكون قطع رأسه مباشرة ، هكذا كان التكوين الروحي لمسلمي تلك الفترة والاحداث التاريخية تشهد بذلك . لذلك نرى ان الاسطورة السبئية انتشرت بعد سيطرة الدولة الاموية في زمن سمح الأمويون فيه بسب وشتم علي وآل البيت عليهم السلام .
هناك شيء آخر متناقض في هذه الأسطورة وهو أن بطلها يهودي ، وكونه يهودي وليس عربي او فارسي يؤكد على ان الأسطورة خرافية وانه تم أختراعها بقصد أغراض معينة ، ولكن مخترعوها لم يعلموا أن جهلهم سيكشف كذبهم ، فالحكمة الإلهية في تطور البشرية تعتمد على قانون التدمير الذاتي ، أي أن كل أمة تنهار فإن سبب إنهيارها منها نفسها وليس بسبب أيدي خارجة عن الأمة ، لهذا فإن اختيار شخصية يهودية ليكون بطل الأسطورة يؤكد على خرافتها ، فاختيار بطل يهودي ليكون سبب تمزيق الأمة الاسلامية يعني أن نقمة المسلمين ستقع في الأخير على اليهود وهذا مخالف للقوانين الإلهية ، لأنها ستجعل تفكير علماء الأمة الإسلامية في فهم سبب إنحطاطها يذهب إلى المكان الخاطئ وهذا سيجعل المشكلة باقية بدون حل في الأمة الاسلامية إلى الأبد ، فالحضارة تولد عندما يبدأ النقد الذاتي والذي سيدفع إلى التعاون مع الأمم الأخرى ، أما الإنحطاط فيبدأ عندما يتم رمي جميع الأخطاء على الآخرين و الذي يؤدي في النهاية إلى إنغلاق المجتمع على نفسه وأنهياره. وهذا ما حصل بالفعل في الأمة الاسلامية منذ دخولها في عصر الانحطاط وحتى اليوم .
شيء آخر يمكن أن نلاحظه في هذه الأسطورة وهو أن عبدالله بن سبأ اليهودي يظهر في الأسطورة وكأنه شخص خارق الذكاء وكأنه أعور الدجال نفسه ، وأن المسلمين في قمة الغباء ، فإذا كانت السبئية هي فعلا حقيقة تاريخية فمن المستحيل أن تظهر حضارة اسلامية في أمة تعاني من الغباء .
لذلك كل من يعتبر أن السبئية هي حقيقة واقعية وليست خرافة هو جاهل في معظم العلوم ، والجاهل لا يحق له أن يتكلم وخاصة في الأمور الدينية لأن الأحداث الدينية هي حقائق إلهية وفهم معلوماتها يحتاج إلى أرقى العلوم .
أسطورة الفرقة السبئية رغم أنها من اختراع بني أمية وهدفها الطعن بعلي وآل البيت عليهم السلام ، ورغم أن آل البيت رفضوها بشكل قاطع وأتهموها بالكفر وحذروا المسلمين من تعاليمها ، ولكن نجد في الأخير أن أتباع أهل البيت ذوي العقول البسيطة قد أخذوها وأضافوا عليها وروجوها لتصبح بعض تعاليمها جزء من عقيدة الفرق الشيعية . لهذا نجد ظهور فرق كثيرة في الشيعة تعتمد على بعض مبادئ الفرقة السبئية وهذه الفرق هي :
- الكيسانية : هذه الفرقة تعتقد انّ محمد بن علي عليهما السلام من زوجته خولة بنت جعفر الحنفية ، هو المهدي وأنه لم يمت وأنه يقيم في جبل رضوى من جبال تهامة ، وأنه سيعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا. وهذا أول حكم بعودة الإمام بعد غيبته عند الشيعة . هنا نجد أن البداية كانت في فرقة أرادت أن تعطي محمد بن الحنفية مكانة أعلى من الحسن والحسين أبناء فاطمة عليهم السلام ، كخطوة أولى تبعد المسلمين عن محبة أهل البيت ، والتي ساعدت أكثر على ظهور الفرق الأخرى .
- المحمدية : طائفة شيعية تنسب نفسها إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (محمد النفس الزكية)، الذي يعتقدون أنه الإمام والمهدي المنتظر، وأن محمداً ذا النفس الزكية لا يزال حياً في جبل حاجر بنجد، وأنه سيظهر ويملأ الأرض عدلاً، وأن البيعة ستعقد له بين الركن والمقام في بيت الله الحرام بمكة
- الناوسية : هذه الطائفة تسمى الناوسية نسبة لرئيس لهم يقال له عجلان بن ناوس من أهل البصرة. وهم يسوقون الإمامة إلى محمد الباقر وأن محمد الباقر قد نص على إمامة جعفر الصادق، ويعتقدون أن جعفر الصادق حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر أمره وهو القائم المهدي، هذه الفرقة ليس لها وجود في وقتنا الحاضر .
- الخطابية : هي فرقة دينية ادعت أنها إسلامية شيعية . ينسبون إلى أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع ، بعض المصادر تذكر أنها تعتقد أن أبي الخطاب إدعى أن جعفر الصادق إله، فلما بلغ ذلك جعفر لعنه وطرده ، وزعم أتباعه أنّ جعفراً إله غير أنّ أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي عليه السلام. هذه الفرقة ليس لها وجود اليوم .
- الواقفية : وهي إحدى الفرق الذين وقفوا على الإمام السابع للشيعة موسى الكاظم، فلم يقولوا بإمامة من بعده، حيث زعموا أن موسى الكاظم لم يمت وأنه حي، وأنهم ينتظرون خروجه حيث أنه دخل في غيبة. هذه الفرقة ليس لها وجود اليوم .
-الجنينية : هي فرقة شيعية يُدَّعى أنها كانت موجودة وأنها كانت تعتقد بأن الإمام الحسن العسكري كانت له جارية قد حملت منه بجنين ذكر، وأنه ما يزال جنينًا في بطن أمه حتى الساعة، وأنه سيظل جنينًا إلى قرب وقت الظهور في نهاية الزمان، حيث سيولد حينها فيكون الإمام محمد المهدي .
هناك طوائف شيعية أخرى حاولت أن تحافظ على أصالتها لتبتعد عن تأثير الفرقة السبئية الخرافية سنتكلم عنها في المقالة القادمة إن شاء الله ، ولكن كل الذي نستطيع أن نختم به موضوع أسطورة الفرقة السبئية أن هذه الأسطورة التي صنعها بني أمية أصبحت أقوى سلاح في يد علماء السنة والجماعة في إقناع المسلمين بأن الإسلام الحقيقي هو فقط مذاهب السنة والجماعة وأن الشيعة هي الفئة الضالة . ولكن الحقيقة هي أن أصل الشيعة هو من فاطمة الزهراء عليها السلام فهي التي بسلوكها رفضت خلافة أبو بكر رضي الله عنه، ورفضها هذا لم يكن بنية سياسية ولكن كان رفضها فيه حكمة إلهية لتؤكد لعلماء المستقبل أن علي عليه السلام هو الجزء الثاني من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الاسلام هو دين يتطور مع مرور الزمن ، وأن تطوره هذا يتوقف على فهم علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بعلي عليه السلام. لهذا نجد أن آل البيت بعد الحسن والحسين عليهما السلام المذكورين عند الشيعة جميعم لم يشاركوا في أي معركة عسكرية ، ولكن كانوا أئمة وحكماء وواعظين . والشيء المؤسف حقا أن مسلمي السنة العامة يعلمون أشياء كثيرة عن معاوية وخالد ابن الوليد وعمر بن العاص وصلاح الدين الأيوبي ، ولكنهم لا يعلمون شيئا على الأطلاق عن معظم أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم .
لذلك علينا أن نعلم أن أتباع الشيعة الحقيقية هم من حافظوا على رويات آل البيت وليس لهم علاقة بأولئك الذين انخدعوا بالأسطورة السبئية فاستخدموا أسماء آل البيت ليكّونوا لأنفسهم فرق تحقق مصالحهم الشخصية فهولاء مثلهم مثل بني أمية رغم أنهم كانوا أعدائهم . والعالِم المسلم الذي يخاف الله ويخاف على مصير الأمة الاسلامية عليه أن يساهم في تنظيف الاسلام من شوائب بني أمية والفرقة السبئية التي مزقت الأمة الإسلامية إلى نواصب ورافضة وحولت الإسلام من دين روحي إلى إسلام سياسي مادي يمزق بعضه البعض .
ز . سانا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق