الثلاثاء، 28 مايو 2019

خواطر من الكون المجاور الخاطرة ٢٢١ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٢

خواطر من الكون المجاور
الخاطرة ٢٢١ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٢
كون المقالات الأخيرة حساسة وتتعلق بعقيدة الأمة الإسلامية ، ومن المعروف أن المسلمين بشكل عام حريصون على دينهم وتاريخهم الديني ولا يقبلون أن يمس أحد به بسوء ، لذلك قبل أن أتابع موضوعنا الرئيسي أود أن أشير إلى بعض النقاط الهامة لأوضح بعض الأمور لقراءنا الجدد الذين لم يحاولوا العودة إلى المقالات الماضية ليتحققوا من حقيقة هدف كتابة هذه المقالات ، فمن الشيء الطبيعي على المسلم السني الذي قرأ فقط المقالات الأخيرة أن يثور ويغضب لما يقرأه في هذه المقالات التي تتحدث عن بني أمية والشيعة ، وخاصة أن الفترة الأخيرة تشهد تدخلات شيعية سياسية في محاولة خلق فوضى سياسية في الكثير من البلدان العربية ، والأمر لا يحتاج ذكاء لفهم ما يحصل .
ولكن هنا يجب أن لا ننظر إلى الأمور برؤية تعصبية لأن هذه الفوضى السياسية التي تعاني منها الأمة العربية يشارك بها أيضا جماعات من مسلمي السنة ، أفضل مثال على ذلك شيوخ حزب الأخوان المسلمين الذين بفكرهم الديني المتخلف ، نجدهم في كل فرصة يقوم بها المجتمع العربي المثقف في محاولة لتجديد الوضع العام للمجتمعات العربية ، نرى أخوان المسلمين ينضمون إليهم ليفرضوا أنفسهم ومطالبهم في هذه المحاولات فيتحول اسلوب المطالبة بالتجديد من اسلوب حضاري يرضي الجميع إلى اسلوب بربري تعصبي يؤدي إلى الفوضى والكثير من الضحايا وتكون نتيجته فشل هذه المحاولات . فعلى الرغم من أن النسبة العظمى من مسلمي الدول العربية ترفض الأخوان المسلمين وأفكارهم الرجعية ورغم أنهم يعلمون ذلك ولكن نجدهم يصرون على أنهم الأصح بين الجميع وكأنهم يعتبرون أنفسهم خلفاء الله في الأرض ويجب رغما عن الجميع أن يصلوا إلى السلطة ليديروا شؤون البلاد . مثل أخوان المسلمين توجد فئات صغيرة غيرهم كثيرون في السنة يستخدمون الدين لخلق الفوضى . فما يحصل في مثل هذه الحالات ليس سببه الاسلام الديني ولكن الاسلام السياسي الذي هدفه الحقيقي هو السلطة وليس دين الإسلام أو مصالح المجتمع.
هكذا هو الوضع تماما أيضا في الشيعة فبعض علماءهم يستغلون الناس البسطاء من الشيعة فيجعلونهم يعتقدون أن هدفهم هو الدفاع عن مظلومية أهل البيت ليعود الإسلام الحقيقي إلى الأمة الإسلامية ، ولكن الحقيقة أن هدفهم هو فقط حبهم للسلطة لتأمين مصالحهم الشخصية والدينية التعصبية. فهدف الاسلام السياسي هو واحد عند السنة وعند الشيعة ألا وهو عرقلة أي محاولة في تكوين أمة اسلامية حضارية تلعب دور في حل المشاكل التي تعاني منها مجتمعات عصرنا الحاضر . والمشكلة الأخرى اليوم هي أن بعض أفراد الشيعة السياسية تأخذ أبحاث علماء السنة المعاصرين الذين وجدوا أن تاريخ الأمة الأسلامية فيها شيء من الظلم في حق أهل البيت ، ليروجوا لها في القنوات الفضائية ليقنعوا مسلمي الشيعة البسطاء أن هناك مد شيعي سيكسح العالم وأن المذهب الشيعي سيكون في المستقبل المذهب الحاكم للأمة الاسلامية بأكملها .
فما أكتبه في مقالاتي ليس إلا توضيح لبعض الأمور لكي لا يقع المسلمون في خدعة الاسلام السياسي سواء كانوا من السنة أو من الشيعة لأن الإسلام السياسي هو من مخلفات المجتمع الجاهلي وليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يشكل خطرا كبيراً على الأمة الاسلامية ، فما يحصل اليوم هو أكبر إثبات على ذلك فبدلا من أن تتعاون الدول الإسلامية مع بعضها البعض لتصبح أمة متقدمة نجدها قد تحولت إلى ضعيفة تعاني من الحروب سواء كان على مستوى دولي أو على مستوى حروب أهلية في الدولة الواحدة والتي سببت خراب هذه الدول وتهجير قسم كبير من شعبها .
ما يجب أن نعلمه نحن المسلمون أن دين الإسلام الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو دين مرن مناسب لجميع الأزمنة لأنه دين متعدد الرؤى ، وأن ظهور المذاهب المختلفة في الإسلام لم تظهر لتصل إلى السلطة لتحكم المسلمين سياسيا ، ولكنها ظهرت ليستطيع الدين التطور مع الزمن حسب حاجة كل عصر لتحقق للمسلمين جميع الحاجات الروحية للإنسان ، فهذه المذاهب ترى الإسلام من زوايا مختلفة ، حيث كل مذهب يرى الإسلام من زاوية خاصة به ، فظهور المذاهب كان هدفه رؤية الاسلام كله وليس جزء منه كما يحصل في رؤية المذهب الواحد . كل مذهب فيه الصح وفيه الخطأ ولا يمكن تصحيح هذا الخطأ إلا بالتعاون مع المذاهب الأخرى ليصل الإسلام في النهاية إلى شكله الحقيقي .
فعندما أتكلم في مقالاتي عن الشيعة أقوم بنقد ذاتي أحاول فيه أن أوضح للمسلم السني تلك الزاوية التي يرى فيها الشيعة الإسلام والتي تساعد في تكوين إسلام متكامل والتي غابت في تعاليم مذاهب السنة ، وكما ذكرت في مقالات ماضية عديدة أني لا أعتمد في أبحاثي على ما تكتبه الأيدي البشرية فهي يمكن أن تكون صحيحة أو أكاذيب ، لهذا أعتمد على الحقائق الإلهية التي لا يستطيع أحد أن ينكر صحتها .وحتى أوضح لكم بعض من هذه الحقائق الإلهية في موضوعنا هنا أود من كل قارئ مسلم سني أن يقوم بنفسه بهذه التجربة : سأذكر بعض الأسماء وعلى القارئ أن يسأل نفسه ومن حوله من مسلمي السنة ماذا يعلمون عن هؤلاء الأشخاص " علي زين العابدين ، محمد الباقر ، جعفر الصادق ، موسى الكاظم ، علي الرضا ، محمد الجواد ، علي الهادي ، الحسن العسكري " . ماذا نعلم نحن مسلموا السنة عن هؤلاء الأشخاص ؟ أنا متأكد تماما أن ٩٩ % من جمهور الطائفة السنية لا يعلمون شيئا عنهم ، فأنا شخصيا كمسلم من عائلة سنية فمن خلال دراستي للكتب الدينية والتاريخية في مناهج جميع مراحل دراستي لم أسمع عنهم شيء فإذا كان أحد هذه الكتب قد ذكر أحد هذه الأسماء فقد تم ذكره بطريقة فرضت علي أن أنساه بعد فترة قصيرة جدا . ولكن هناك أسماء أخرى موجودة في هذه الكتب فرضت علي أن تبقى في ذاكرتي إلى الأبد كخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص وعقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي وطارق بن زياد وغيرهم كثيرين . أنا لا أقصد أن جميع هؤلاء لا يستحقون ذكرهم ، ولكن أقصد أن كتب مذهب السنة لم تعدل في عرض الإسلام كدين وتاريخ على المسلمين فهي أعطت أهمية كبيرة لكثير من الشخصيات الذين حملوا معهم قسم من سلوك البيئة الجاهلية لينقلوها للمسلمين سواء عن طريق الكتب المدرسية أو عن طريق الخطب في المساجد ، فاختلط سلوك المسلمين بين الجاهلية وبين الإسلام فظنوا أن هذا السلوك المختلط هو السلوك الذي يعلمه الاسلام الحقيقي .
أسماء هؤلاء الذين ذكرتهم ولا يعلم المسلم السني عنهم شيئا هم ذرية رسول صلى الله عليه وسلم وأحفاد علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة الزهراء بنت الرسول عليهما السلام. ما يجب أن يعرفه المسلم أن الإمام علي وزوجته الزهراء عليهما السلام هما الصورة المثالية التي تركها رسول الله لنا بعد وفاته لنرى من خلالها سلوك النبي نفسه ، لأنهما منذ ولادتهما كانا يعيشان في عالم روحي يسيطر عليه رسول الله بشكل كامل ، وكانا بعيدان كل البعد عن سيطرة البيئة الروحية الجاهلية ، لهذا لم يدخل فيهما أي شائبة من شوائب المجتمع الجاهلي . هذه التربية الصالحة نقلها الامام علي وفاطمة الزهراء عليهما السلام إلى أبنائهم وأحفادهما . وهؤلاء بدورهم كانوا مثالا حقيقيا للتربية الصالحة التي أمرنا رسول الله بتعليمها لأطفالنا والتي يمكننا رؤيتها وتعلمها من خلال الروايات التي تتحدث عن أهل البيت ، ولكن الذي حصل في الواقع أن معاوية ومعظم خلفاء الدولة الأموية استخدموا اسلوب القمع والإرهاب في كل شخص يتكلم عن فضائل وخصائص أهل البيت ، لهذا مسلمي السنة في ذلك الزمان وبسبب الخوف على أنفسهم لم يذكروا روايات عن أهل البيت في كتبهم إلا القليل ، ليس هذا فقط بل بعضهم حرفها وألف روايات كاذبة للطعن بأهل البيت . فالذي حصل بعد ذلك أن مسلمي السنة ساروا على نفس منهاج روايات مسلمي العصر الأموي فظلت الروايات عن أهل البيت بعد علي عليه السلام تكاد أن تكون شبه معدومة في كتب السنة . الشيعة هم الذين كتبوا رويات أهل البيت وحافظوا عليها ، ولكن غيابها في كتب السنة هو الذي سمح لبعض الرافضة في الشيعة أن يضيفوا عليها الكثير من الأكاذيب والغلو فيها.
وهنا أود أن أطلب من كل قارئ سني أن يسأل نفسه ماذا يعلم عن أقوال وتعاليم علي عليه السلام ، وماذا يعلم عن سيرة حياة فاطمة الزهراء عليها السلام، وماذا يعلم عن ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم . أنا متأكد تماما بأن معظم مسلمي السنة لا يعلمون عنهم إلا القليل جدا ، أبحثوا في كتب السنة وتأكدوا بأنفسكم أين هي أحاديث وروايات وآحاديث الحسن والحسين وأبنائهم وأحفادهم . لماذا هذه الكتب لا تذكرهم فهؤلاء كانوا أقرب الناس إلى رسول الله روحا وجسدا وهم الذين أخذوا اكبر نصيب من تعاليم رسول الله في تربية أجيال صالحة تصلح لكل زمان ومكان .
الرأي الذي يقول أن كتب السنة خالية من روايات أهل البيت ليس هو فقط رأيي الشخصي ولكن هو أيضا رأي العديد من علماء السنة في العصر الحاضر ، فبعد الإنفتاح العلمي والتحرر الفكري الذي حصل في بداية القرن العشرين أصبح عدد العلماء الذي يتكلمون عن مظلومية أهل البيت في كتب السنة يزداد يوما بعد يوم . لأنها من الحقائق التي لا يستطيع أحد أن ينكرها ، بعض علماء السنة لا يعترفون بصحة هذا الرأي فيقولون نحن نحب أهل البيت ويوجد رواية فلان وفلان عن الحسن والحسين عليهما السلام ، ولكن هناك فرق كبير من أن تذكر عن كل شخصية اسلامية أكثر من عشر روايات وبأسلوب معين ثم تذكر رواية واحدة عن الحسن أو الحسين عليهما السلام بأسلوب آخر ، ففي هذه الحالة الروايات العشرة كنتيجة هي التي ستؤثر على فكر وسلوك القارئ بسبب كثرتها وليس الرواية الواحدة ، والنتيجة ستكون أن المسلم سيخرج من هذه الكتب وهو لا يحمل في عقله الباطن شيئا من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما حدث في الواقع .
لنضرب مثالا بسيطا يوضح لنا نتيجة غياب روايات أهل البيت في كتب السنة على فكر المسلم السني ، إذا تمعنا في تفسير أحداث معركة صفين التي حدثت بين علي عليه السلام ومعاوية ابن أبي سفيان ، والتي ذهب ضحيتها أكثر من ٧٠ ألف قتيل ، سنجد أن معظم علماء السنة يحاولون أن يبرؤا معاوية من أي تهمة قائلين بأن الذي حصل هو موضوع إجتهاد ، كل طرف اجتهد فوصل إلى قراره ، واختلاف الاجتهادات أدى إلى حدوث المعركة ، ثم يذكرون حديثا شريفا يقول " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" بهذا الحديث يحاولون أن يبرروا ما حصل وكأنه قضاء وقدر وأنتهى الأمر . إن تفسير أسباب معركة صفين بهذه الطريقة لا يدل سوى على أن فكر علماء السنة هو من الفكر الذي فرضه خلفاء بني أمية على المسلمين . فتفسير سبب حدوث معركة صفين لا يمكن تطبيق موضوع الإجتهاد عليه .الموضوع هنا بحاجة لتطبيق مبادئ علم النفس التربوي وعلم الوراثة الروحي وليس تفسيره عن جهل وتعصب ، علي عليه السلام أخذ علومه وتربيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما معاوية فكان تربية أبيه أبي سفيان الذي عاش حتى عمر ٧٠ عام في بيئة جاهلية ولولا انتصار المسلمين بفتح مكة ربما لكان توفي على جاهليته دون أن يدخل الاسلام ، لذلك فإن الِعالم الذي يعتمد فكرة الإجتهاد في تفسير معركة صفين فإنه وكأنه يساوي بين أبي سفيان ورسول الله في نوعية التربية التي علموها لأبنهم وهذا لا يجوز قطعيا ، فنوعية التربية التي تلقاها معاوية من أبيه هي التي حرضت معاوية في استخدام حجة القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه لنشوب معركة صفين ، فالقصاص بحد ذاته هو من تعاليم الجاهلية ، ولكن التسامح والصبر من أجل المصالحة العامة هو من تعاليم الدين الإسلامي الذي حاول علي عليه السلام أن يتبعه في تلك الفترة لتكون بداية جديدة للتخلص من مخلفات الجاهلية لتحل محلها المحبة والتسامح . ولهذا نجد اليوم أن عدد علماء السنة الذين بدأوا يرفضون فكرة موضوع الإجتهاد في معركة صفين ويؤكدون أن الحق هو فقط مع علي عليه السلام يتزايد يوما بعد يوم بسبب نمو مستواهم العلمي .
يقول الله عز وجل في قرآنه الكريم (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١) هذه الآية مذكورة في سورة الأحزاب ، وكلمة أحزاب تعني القوم الذي تَشاكَلَتْ قُلُوبهُم وأَعْمالُهم فأصبحوا جماعات عديدة متعادية مع بعضها البعض، في هذه السورة وضع الله هذه الآية لتتجنب الأمة الإسلامية أن تتحول إلى أمة أحزاب ، الله عز وجل اختار رسول الله ليكون أسوة وقدوة ليتشبه المسلمين به ويعملون على منواله ، رسول الله علم صفات هذه القدوة لأهل بيته كسلوك وعلم ، فطالما أن رسول الله كان معصوما عن الخطأ ، فحسب مبادئ علم الوراثة ولا نقصد فقط الوراثة الجسدية ولكن أيضا وراثة المعلومات والسلوك ، فإن أكبر نسبة من هذه العصمة إنتقلت إلى علي وفاطمة كونهما كانا ومنذ طفولتهما برعايته هو فقط ، فعلي عليه السلام رغم أنه كان ابن عمه ولكنه منذ طفولته عاش في بيت الرسول وكأنه أبنه أو أخاه الأصغر . النسبة الكبيرة من عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنتقلت إلى فاطمة وعلي عليهما السلام ومن ثم انتقلت إلى الحسن والحسين عليهما السلام ، فالحسن عاش مع الرسول ٨ سنوات ، والحسين عاش معه ٧ سنوات ، فتربيتهما تلقياها من رسول الله ومن ابويهما ، لذلك نستطيع أن نقول أن نسبة كبيرة من العصمة قد انتقلت أيضا إليهما ، سلوك هؤلاء الأربعة عليهم السلام حسب علم النفس التربوي كان في أرقى مستوياته ، لهذا لا يمكن مقارنة سلوك هؤلاء مع أي صحابي ونعني هنا جميع الصحابة وبدون أي استثناء ، لأن جميع الصحابة عاشوا في مجتمع جاهلي وجزء من هذه الجاهلية قد أثر في تربيتهم وتكوينهم الروحي ، هذا الرأي لا يمكن إنكاره لأن أي إعتراض عليه هو بمثابة الطعن في شخصية رسول الله كأب وكمعلم لأننا بهذا الإنكار سنضع آباء الصحابة بمستوى رسول الله . لهذا وجب على جميع علماء الدين أن يعطوا أهمية كبيرة لسيرة حياة هؤلاء عليهم السلام لأنهم هم الأمتداد الطبيعي لسلوك رسول الله وصفاته والتي من خلالهم سنجد النتيجة الطبيعية لسلوك وصفات الرسول التي لم نفهمها أثناء وجوده على قيد الحياة ولكنها ظهرت كنتيجة له فيما بعد .
لهذا شاءت الحكمة الإلهية أن تدفع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته أن يعطي موضوع الوراثة الروحية أهمية كبيرة ، حيث نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علم أن حياته قد وصلت إلى نهايتها ، نجده بعد حجه الأخير يجمع المسلمين حوله ويخطب بهم تلك الخطبة التي سميت فيما بعد بخطبة الوداع (حديث غدير خم) ، إذا تمعنا في هذه الخطبة سنجد أنها تتألف من قسمين : القسم الأول يقول صلى الله عليه وسلم " إني تاركٌ فيكم ثَقلينِ: أوَّلهما: كتاب الله، فيه الهُدى والنُّور؛ فخُذوا بكتاب الله، واستمسكوا به ، والثاني أهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي ، أُذكِّركم الله في أهل بيتي ، أُذكِّركم الله في أهل بيتي " العبارة الأخيرة قالها ثلاث مرات وكأن صلى الله عليه وسلم يعلم تماما بأن بعد وفاته سيحصل ظلم من المسلمين في حق أهل بيته . وهذا ما حصل في الواقع تماما حيث بني أمية والخوارج منعوا علي عليه السلام أن يقوم بدوره الحقيقي أثناء خلافته ثم قتلوه . والحسن عليه السلام أيضا منعوه من تولي الخليفة رغم مبايعة المسلمين له بالشروط الصحيحة وعندما تنازل عنها سمموه وقتلوه حيث قبل وفاته قال ( سقيت السم أكثر ما مر ولكن ما سقيت مثل هذا ) ورفض أن يقول من سممه وترك أمر قاتله لرب العالمين لكي لا تحدث فتنة بين المسلمين ، والحسين عليه السلام أيضا عندما رأى أن معاوية نكث إتفاقية الصلح مع أخيه الحسن وأنه قام بتغيير نظام الشورى الذي أعتمدته الأمة الاسلامية في اختيار الخليفة ، حيث قبل وفاته ولى معاوية الخلافة لابنه الفاسق يزيد ، فخرج الحسين بناء على مطالب المسلمين لنزع الخلافة من يزيد الفاسق ، ولكن المسلمون خذلوه وتركوه يواجه لوحده جيش يزيد بن معاوية فقتلوه وقطعوا رأسه وقتلوا معه معظم أفراد أهله في معركة الكربلاء . مسلمي السنة في العصر الأموي حذفوا القسم الأول من خطبة الوداع ، أما مسلمي السنة اليوم فنجدهم يمدحون معاوية وخلفاء بني أمية الذين كانوا من ألد الأعداء لأهل البيت ، واليوم كل من يتكلم عن ظلم أهل البيت ويهاجم معاوية وبني أمية يتهمونه بأنه شيعي حاقد .
أما في القسم الثاني من خطبة الوداع فنجد رسول صلى الله عليه وسلم يمسك بيد علي عليه السلام ويرفعها إلى الأعلى ويقول " اللهم من كنت مولاه فعَليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه». رسول الله قال هذا ليؤكد للمسلمين جميعا أن أكثر شخص يحمل صفات الرسول وحكمته هو علي عليه السلام.
في هذه الخطبة الشريفة أراد الله عز وجل أن يبين للمسلمين الذين يبحثون عن حقيقة الاسلام الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، أن يتمعنوا في تفاصيل هذه الخطبة كي لا يضلوا بكلام شيوخهم المبني على الأهواء والأكذيب وليس عن علم . فإذا بحثنا في تفسير معظم علماء السنة لحديث الوداع نجدهم يفصلون القسم الأول عن القسم الثاني ، وكأن القسمين لا علاقة لهما ببعض ، في صحيح البخاري مثلا لا نجد القسم الأول من الحديث رغم أنه حديث لا يجوز أن يُطعن بصحته بأي شكل من الأشكال فهو متواتر ذكره أكثر من ٢٠٠ عالم ورواه أكثر من ٣٠ صحابي وصحابية ، ولهذا ذكره مسلم في صحيحه . فإذا تمعنا في ردة فعل علماء السنة لهذا الحديث نجد أن بعضهم ينكرون صحته ، وبعضهم الآخر يذكره بأشكال مختلفة بهدف تشويه معناه الحقيقي ، ابن تيمية مثلا الذي يُعتبر شيخ الاسلام عند الكثير من مسلمي السنة حيث يقول عنه البعض " إننا نتعبد الله بحب ابن تيمية " ، في كتابه منهاج السنة النبوية (٧/٣٩٣ -٣٩٧) يحاول ابن تيمية أن يقلل من أهمية علي وأولاده وأحفاده فيقول بما معناه ( أن المقصود بكلمة عترتي (أهلي) في هذا الحديث هم بني هاشم جميعا وليس علي فقط . هذا التفسير لا يدل سوى على الطعن بشخصية علي عليه السلام أو أن ابن تيمية لم يفقه المعنى الحقيقي للحديث لأنه يجهل علاقة علم النفس التربوي ومبادئ علم الوراثة التي يعتمد عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف . فالرسول صلى الله عليه وسلم هو من محصلة التطور الوراثي لأمه وأبيه وليس فقط أبيه ، ثم أن أجداد الرسول من أبيه وكذلك أقربائه لا علاقة لهم بالعصمة الإلهية التي وهبها الله لرسوله أما علي واولاده عليهم السلام فهم فقط الذين لهم علاقة بهذه العصمة لأنهم تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم . بينما نجد الشيعة قد وضعوا العصمة في ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الحفيد الثاني عشر ، وهذا أيضا خطأ حسب قانون الوراثة فكلما أبتعد النسل عن المصدر الرئيسي كلما قلت نسبة الصفة المورثة في النسل .
هناك حديث شريف (بعض علماء السنة يرفضون صحته) يقول "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال، حبِّ نبيكم، وحبِّ آل بيته، وتلاوة القرآن" . فلو أن الكتب المدرسية كانت مليئة بروايات وأحاديث أهل البيت الذين حملوا سلوك وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الوراثة الروحية والجسدية ، تأكدوا تماما لكان من المستحيل أن يظهر اليوم حزب ديني يحمل أسم "الأخوان المسلمين" ولا ان يسمح بظهور منظمات إرهابية تعشق العنف أمثال القاعدة أو داعش ولا كان يستطيع أي شخص غير مسلم أن يتهم الدين الإسلامي بالوحشية والعنف . وأكبر إثبات على ذلك أن جميع أتباع هذه المنظمات الإرهابية الذين يستخدمون العنف بحجة الدفاع عن الاسلام شيخهم ومعلمهم الأول هو الشيخ ابن تيمية ، ومن يتمعن في كتب ابن تيمية سيجد أنه يدعي حب أهل البيت ولكن كتبه في الحقيقة فيها بشكل غير مباشر طعن شديد بشخصية علي عليه السلام وأولاده وفي الوقت نفسه فيها دفاع واضح تماما عن معاوية وخلفاء بني أمية الذين يكرهون أهل البيت .
في الأخير أود أن أذكر مثالا عن سلوك أهل البيت ذكره ابن كثير في كتابه البداية والنهاية ، من هذا المثال سنعلم كم هي حاجة المسلم اليوم لمثل هذا السلوك الحضاري في أهل البيت والذي يستطيع حل الكثير من مشاكل التي يعاني منها اليوم المجتمع الإسلامي والعالمي :
الحادثة بشكل مختصر تذكر انه بعد عامين من مقتل الحسين عليه السلام عندما قامت ثورة في المدينة ضد الدولة الأموية وحكامها ، وراحوا الثوار يحاصرون جميع بني أمية ليقتلوهم ، لجأ مروان بن الحكم الأموي إلى عبدالله بن عمر ، ليخفي عنده زوجته وبنوه كي لا يُقتلوا على أيدي الثوار في المدينة ، ولكن عبدالله بن عمر رفض طلبه ، لأن بني أمية كانوا مكروهين من مسلمي أهل المدينة لما فعلوه بأهل البيت ، فذهب مروان بن الحكم إلى علي زين العابدين ابن الحسين عليهما السلام ليطلب منه حماية أهله ، ورغم أن بني أمية قبل عامين فقط كانوا قد قطعوا رأس أبيه وقتلوا أخوته ومعظم أقربائه أمام عينيه ، ورغم أنه كان سيعرض حياته للخطر من الثائرين لأنه يُخفي أعدائهم عنده ، ولكن رغم ذلك نجد زين العابدين عليه السلام بدل أن يثأر لأبيه من مروان نجده يقبل بمساعدته ويخفى في بيته زوجة مروان وأولاده ، ثم يساعدهم على الخروج من المدينة ليرحلوا بأمان إلى بلاد الشام"
. هذا نموذج من سلوك أهل البيت ، وهكذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصرف كمسلمين . عدد ضئيل جدا من علماء وشيوخ السنة يذكرون هذه الحادثة وأما البقية فهم لا يعرفونها أو لا يريدون من مسلمي السنة أن يسمعوها . ولكن الله عز وجل وضع حقائق تكشف حقيقة ما حدث في الماضي تراها فقط العين البصيرة ، فهذه الحادثة كان لها نتيجة أثرت على مجرى الأمة الاسلامية ، هل تعلمون ماذا كانت نتيجة ما فعله علي زين العابدين ؟ سنذكرها لكم ولكن قبل ذلك أود أن أذكركم بفقرة من مقالة ماضية ذكرت فيها أن سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل من الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حاكم عادل يخاف الله ، فرغم أنه من بني أمية ولكنه كان يختلف عنهم تماما ، شخصية عمر بن العزيز الذي هو فخر للأمة الاسلامية بجميع مذاهبها تكونت من هذه الحادثة التي ذكرتها لكم ، فعمر ابن العزيز رضي الله عنه كان مع أولئك الأطفال الذين خبأهم زين العابدين عليه السلام في بيته . هذه الحادثة كانت هي بذرة الخير التي زُرعت في عمر بن عبد العزيز وجعلته يعلم ما معنى الاسلام الحقيقي ولهذا كان يختلف عن معظم افراد بني أمية ، ولهذا بني أمية سمموه وقتلوه هو أيضا عندما رأوه يحاول التقرب من أهل البيت .
تاريخ الاسلام ليس مجرد روايات عشوائية حدثت بالصدفة كما نقرأه اليوم ولكن هناك حقائق تركها الله لنا ترابط الأحداث مع بعضها البعص لتُحقق علاقة إنسجامية بين السبب والنتيجة لنفهم تأثير الأحداث على مجرى التاريخ ، فلولا زين العابدين عليه السلام ربما لقُتل عمر بن عبد العزيز وهو طفل صغير في المدينة على أيدي الثوار أو ربما لكان شخصا آخر مثل معظم بقية بني أمية ولما سُمي بخامس الخلفاء الراشدين .
أتمنى من القراء أن يتركوا التعصب الديني على طرف ولا يسيئوا فهم مقالاتي ، فهدف مقالاتي ليس الدفاع لا عن طائفة شيعة كما هي اليوم ولا عن الطائفة السنية ولكن هدفها توضيح تعاليم الاسلام الحقيقي ، فشيعة اليوم لا تختلف عن الطائفة السنية فهي أيضا تعاني من التشويه ، وعندما أتكلم عن دور الشيعة في الحفاظ على بعض معالم الإسلام فأنا أقصد دور أولئك العلماء الصالحين في الشيعة الذين أحبوا أهل البيت وحافظوا على رواياتهم وتعاليمهم لتبقى موجودة حتى يومنا هذا والتي لولاهم ربما لما عرفنا اليوم شيئا عن ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخيرا أود أن يسأل كل مسلم سني نفسه هذا السؤال : هل من المعقول أن تكون ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرية فاشلة عاشت على هامش الحياة ولم تكن تستحق أن تذكرها صفحات التاريخ كما يظهر في كتب السنة ، هل هذا معقول ؟ يقول الحديث الشريف " اللهم من كنت مولاه فعَليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» علي عليه السلام في هذا الحديث الشريف هو رمز لأهل البيت .

ز . سانا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق