خواطر من الكون المجاور
الخاطرة ٢٢٢ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٣
الخاطرة ٢٢٢ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ٢٣
في المقالة ما قبل الماضية تكلمنا عن بعض الفرق الاسلامية التي ظهرت وإنقرضت ، اليوم سنتكلم إن شاء الله عن المذاهب التي استمرت ولها أتباعها يؤمن كل منهم بمذهبه بقلبه وعقله ولهذا لم يتخلوا عن مذهبهم لأنهم يرون أن مذهبهم يسير على تعاليم الاسلام كما انزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . ولكن الذي يحصل أن لكل مذهب - وبدون أي إستثناء - له أتباعه الضالين الذين أدخلوا عليه أفكار من الاسلام السياسي فشوهوا هوية مذهبهم في أعين أتباع المذاهب الأخرى ، والمشكلة في هذا الموضوع أن هؤلاء الضالين يُظهرون عيوب المذاهب الأخرى التي صنعها أمثالهم في المذاهب فيعرضونها على أتباع مذهبهم ليظن أتباع مذهبهم أن مذهبهم هو الصحيح فقط وأن بقية المذاهب قد خرجت عن طريق الاسلام الصحيح .
وبفضل هؤلاء إنقسمت الأمة الاسلامية إلى فرق منفصلة وبعض الأحيان متعادية فيما بينها.علماء السنة والجماعة عندما يشرحون سبب وجود اربعة مذاهب في طائفتهم ، نجدهم يبسطون الأمور فيقولون بأن مذاهبهم الأربعة جميعها صحيحة ولا يوجد أي مشكلة تفرق بينهم ، ويعللون سبب ظهور هذه المذاهب الأربعة إلى أشياء منطقية ، من هذه الأسباب مثلا الاختلاف في فهم اللغة وإختلاف فهم العلماء للأحاديث الشريفة ، وكذلك إختلاف الأحاديث التي نقلها الصحابة من منطقة إلى أخرى . هذه الاختلافات دفعت علماء كل منطقة إلى محاولة الإجتهاد فخرج كل عالم بمفهوم معين لمسألة من المسائل ، فالزكاة مثلا عند الإمام الشافعي (المذهب الشافعي) تكون من غالب قوت البلد أي حسب ما ينتجه كل إنسان ، فالمزارع مثلا يدفع زكاته من محصوله . أما بالنسبة للإمام أبو حنيفة (المذهب الحنفي) فالزكاة تكون كمبلغ مالي . فهذا الاختلاف في طريقة دفع الزكاة لا تؤثر على نوعية الإيمان لأن دفع الزكاة في كلا المذهبين يؤدي دوره المطلوب ، ولكن ظروف المنطقة هي التي فرضتها على المذهبين ، لهذا فحسب رأي علماء السنة أن مذاهبهم الأربعة هي صحيحة ولا يوجد أي مشكلة في الإنتماء إلى أي مذهب منها .
علماء السنة والجماعة بتعليلهم هذا يعتمدون على الإختلافات البسيطة في التكوين الروحي للإنسان الذي أدى إلى اختلاف نوع الإجتهاد ، ولكن الإنسان في الحقيقة ليس بمخلوق بسيط كما يعتقدون ، فالتكوين الروحي للإنسان معقد جدا ، وهناك فروقات أعمق من ذلك بكثير قد ينتج عنها اختلافات في الاجتهادات لدرجة قد تبدو وكأنها تدور في فلك آخر لتلائم التكوين الإنساني بجميع أنواعه عند البشر ، فهناك إنسان تكوينه مثلا فيه مقدرة على التحليلات الرقمية والرياضية لهذا فهو سيرى الآيات القرآنية كمعادلات رياضية وسيكون فهمه لها بشكل مختلف كثيرا عن ذاك الذي له مقدرة في علم اللغة ، ومختلف عن ذاك الذي له مقدرة في علم النفس فآيات القرآن هي كلام الله وهي غنية بالمعلومات لتخاطب جميع أنواع المقدرات التي وضعها الله في الناس ، لهذا يقول الله عز وجل (.... ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ٣٢ ) كلمة سُخْرِيًّا من التسخير وتعني الاستخدام ، فمعنى الآية أن الله خلق الناس بمقدرات مختلفة لينفع بعضهم البعض لتأمين جميع حاجاتهم ، هذه الأية مذكورة في سورة الزخرف، وكلمة الزخرف من الزخرفة وتعني : فَنُّ تزيين الشيء بأشكال وألوان فيها إنسجام مع بعضها البعض لتحقق شكلا جميلا يسر النظر والروح ، هكذا تماما هو الإسلام هو دين غني مزخرف بمذاهبه لتعرض حلول لجميع المشاكل .فبسبب شدة الإختلاف في التكوين الروحي من شخص إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى ظهرت المذاهب العديدة في الإسلام . ولهذا أيضا وجدت عدة ديانات على مر التاريخ حيث كل ديانة لها أتباع يؤمنون بصحة ديانتهم بكامل قلبهم وعقلهم ، ولهذا أيضا ظهرت العلوم المختلفة والحضارات المختلفة لتأمين جميع حاجات الإنسانية التي ستساعدها للوصول إلى الكمال الروحي والمادي عبر تاريخ تطورها الطويل . فما ينطبق على مذاهب السنة الأربعة ينطبق تماما على بقية الإختلافات سواء كان على مستوى أمة واحدة أو على مستوى الإنسانية بأكملها ، لهذا يجب أن ننظر إلى إختلاف الأمور بين الطوائف والأمم نظرة موضوعية بعيدة تماما عن أي تعصب سواء كان تعصب مذهبي أو تعصب ديني . وقد تكلمت في مقالة ماضية - الجزء ١٤- عن قانون الإثنا عشرية الذي يفسر لنا سبب إختلاف التكوين الإنساني بين شخص وشخص أخر وبين أمة وأمة أخرى . فالإختلاف وظهور الطوائف والمذاهب ليس علامة ضعف في الدين بل على العكس تماما فهو دليل عظمة الدين لأنه يحقق إحتياجات معظم أنواع التكوين الروحي لأتباع هذا الدين كما يريده الله لهم وليس كما يريد علماء كل مذهب لأنفسهم .
حتى نوضح هذه الفكرة سنحاول شرح تسلسل ظهور الإختلافات في الفرق الإسلامية منذ بداية ظهور الاسلام لنعلم أن هذه الإختلافات هي حكمة إلهية وليست نتيجة سوء فهم كما يظن بعض المسلمين ، فجميع هذه المذاهب بشكلها النقي هي صحيحة وكل منها يحمل حكمة إلهية معينة تساعدنا في رؤية الإسلام على حقيقته الكاملة كما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فجميع هذه المذاهب تؤمن بقواعد الإيمان الرئيسية الثلاثة : الإيمان بالله ، الإيمان باليوم الآخر ، العمل الصالح (مكارم الأخلاق) . وكذلك جميعها تؤمن بأركان الإسلام الخمسة : الشهادتان ، الصلاة ، الصيام ، الزكاة ، وحج البيت . اما الإختلافات بينهم فهي مشابهة للإختلافات بين الفيزياء والكيمياء حيث كل علم يدرس المادة من زاوية مختلفة فلا الفيزياء على خطأ ولا الكيمياء ، والكل يؤمن بصحة هذه الفروقات بينها لأنها علوم مادية يمكن رؤيتها بالعين ، أما في علوم الدين فلا يمكن رؤيتها بسهولة لأنها علوم روحية تدرس التكوين الإنساني الروحي وتحتاج إلى نوع آخر من الرؤية وهي البصيرة للاحساس بها وفهم تلك الإختلافات التي تحصل بين المذاهب والأديان ، وبسبب ضعف البصيرة في نسبة كبيرة من الناس أصبحت هذه الاختلافات سببا للعداوة بينهم.
أول إختلاف ظهر في الأمة الإسلامية كان سببه فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما رفضت ما حدث في بيعة السقيفة التي تم فيها مبايعة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليتولى الخلافة على المسلمين ، هذه الحادثة هي حقيقة إلهية ولا يمكن لأحد أن ينكر حدوثها ، فجميع المذاهب تؤكد على أن فاطمة الزهراء عليها السلام قبل وفاتها طلبت عدم حضور جنازتها أي صحابي شارك في مبايعة السقيفة . فاطمة الزهراء عليها السلام هي من سيدات نساء الجنة لأنها ثمرة تربية أبيها عليه الصلاة والسلام ، فهي أخذت قسم كبير من عصمة أبيها ومن المستحيل أن ترتكب خطأ يؤدي إلى إنشقاق الأمة إلى فرق متعادية . لهذا يجب أن ننظر إلى هذه الحادثة برؤية إيجابية وليس برؤية سلبية ، فالله عز وجل وضع في تصرف فاطمة الزهراء عليها السلام حكمة إلهية . وإن فهم هذه الحكمة سيساعدنا على فهم الاختلافات التي ستمر عليها الأمة الإسلامية والإنسانية بأكملها .
إن سبب رفض فاطمة الزهراء عليها السلام لِما حصل في بيعة السقيفة كان هدفه هو توضيح حقيقة زوجها علي عليه السلام ودوره الذي أعطاه الله في تكوين الدين الاسلامي فبيعة السقيفة حصلت بدون أن يأخذ أحد رأي علي عليه السلام . فلولا سلوك فاطمة هذا لظن المسلمون أن علي عليه السلام هو مجرد صحابي مثل أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة . ولكن الأمر ليس كذلك فكما شرحنا في الجزء ١٨ من سلسلة "ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء " بأن الله أراد أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اليد اليمنى للإسلام وعلي عليه السلام اليد اليسرى له ، فبدون علي عليه السلام يصبح الإسلام بيد واحدة فقط ويخسر بعض قوته ، فعلي عليه السلام هو بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون لأخيه موسى عليهما الصلاة والسلام . الله أنزل الإسلام على نبيه محمد كمعلومات روحية أرقى من أن يفهم معانيها الشاملة عقل إنسان ، فكان دور علي عليه السلام من خلال علمه أن يعلم الناس طرق فهمها لتستطيع تعاليم الإسلام أن تكمل بقية الاديان والحضارات العالمية .
أما بالنسبة لِما فعله أبو بكر الصديق والصحابة الصالحين رضي الله عنهم في بيعة السقيفة فهو أيضا حكمة إلهية ولا تتعارض مع رفض فاطمة الزهراء عليها السلام لها ، فالمجتمع الإسلامي في تلك الفترة كان لا يزال يحمل الكثير من مخلفات الجاهلية ، لهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالنسبة لهم واحد منهم ولهذا كان مناسبا لهم لتولي الخلافة عليهم في تلك الفترة ، فتقاليد المجتمع الإسلامي كان يحكمها أسياد قريش وكثير من الصحابة كانت نفوسهم متمسكة بهذه التقاليد لأنها كانت جزء من تكوينهم الروحي ، أما علي عليه السلام فكان مختلفا عنهم في تكوينه الروحي بسبب تربيته منذ ولادته على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان تكوينه الروحي خالي تماما من مخلفات الجاهلية ، لهذا كان بالنسبة لهم غريبا عن طبع مجتمع قريش في تلك الفترة ، وخاصة أنه كان أصغر سنا بكثير من كبار الصحابة لذلك كان من المستحيل أن يقبلوا أن يتولى أمرهم رجل بسن علي عليه السلام . لهذا يجب أن يُنظر هنا إلى هذا الموضوع من خلال زاوية علم النفس لنفهم حقيقة ما حدث ، فما فعله الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم كان حكمة إلهية تناسب الظروف الروحية لتلك الفترة لتسمح للمجتمع في الإنتقال التدريجي من مجتمع جاهلي إلى مجتمع إسلامي بشكل يلائم ظروف التكوين النفسي للمسلمين في تلك الفترة لتستطيع الأمة الإسلامية أن تسيطر على استمراريتها.
لهذا يمكننا القول هنا باختصار أن الخلفاء الراشدين الثلاثة وأتباعهم من الصحابة الصالحين كان دورهم تأمين الظروف المناسبة لخلق أمة اسلامية لها هوية خاصة بها لتؤكد وجودها كأمة مستقلة عن بقية الأمم . أما دور علي عليه السلام فكان تكوين امة اسلامية منفتحة على جميع الأمم بشكل يساهم في دفع الإنسانية في الانتقال إلى مرحلة روحية جديدة . فالخلفاء الراشدين والصحابة التابعين لهم كان دورهم يتمثل في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام والتي إزدهرت فيها علوم فقه الدين بشكل يخص فقط الأمة الاسلامية ، أما دور علي عليه السلام والصحابة التابعين له فهو يتمثل في القرون الثلاثة الثانية من تاريخ الإسلام حيث إزدهرت العلوم المختلفة وأندمجت مع علوم فقه الدين فاستطاعت تكوين حضارة عالمية تخص الإنسانية بأكملها .
ما فعلته فاطمة الزهراء عليها السلام كبداية للإسلام بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم قد أدى إلى ظهور فئتين من المسلمين ، فئة ستقوم بدور الخلفاء الراشدين ومنهم ستتكون فيما بعد طائفة السنة والجماعة ، وفئة ستقوم بدور علي عليه السلام وستتكون منهم طائفة الشيعة . هذه الفكرة التي شرحناها لكم هي أهم نقطة في فهم سبب وجود الإختلافات بين الطوائف والمذاهب . هذه الإختلافات بين الفئتين كانت في البداية بشكلها الإيجابي فلم يكن بينهما أي عداوة ولكن فقط إختلاف في وجهة النظر ، ولكن بعد ظهور الاسلام السياسي في عهد معاوية بن سفيان بدأت روح السوء رويدا رويدا تدخل في هاتين الفئتين لتأخذ الأمور شكلا آخر فتحولت هذه الإختلافات إلى شكلها التعصبي المتخلف المشابه لما يحدث اليوم .
الآن لننتقل إلى الخطوة الثانية في ظهور المذاهب ، بعد مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه وتولى علي عليه السلام الخلافة استغل بعض المسلمين المنافقين مقتل عثمان لتكوين الاسلام السياسي ليحقق لهم مصالحهم الشخصية ، وكان ذلك حين رفض معاوية بن أبي سفيان - والي الشام حينها - أن يُبايع الخليفة علي عليه السلام بحجة أن يتم القصاص لدمّ عثمان أولا ثم المبايعة ، ورغم أن حكمة علي عليه السلام في فهم الأمور قد أضطرته في التمهل في موضوع القصاص منعا من إنتشار الفتنة وتحولها إلى حروب الأهلية تؤثر على قوة الأمة الإسلامية قد تعيدها إلى ما كانت عليه قبل الاسلام .ورغم محاولاته في توضيح موقفه من قتلة عثمان رضي الله ، ولكن إصرار معاوية وأتباعه على رفض مبايعة علي عليه السلام سُرعان ما قاد الجميع إلى لغة السيف ، فحدثت في البداية موقعة «الجمل» ضد جيش الخليفة التي انتهت بمقتل ١٠ آلاف ، منهم عدد كبير من الصحابة .
إصرار معاوية على عدم مبايعة علي عليه السلام من أجل الحفاظ على منصبه ، وخوف علي عليه السلام أن يؤدي موقف معاوية إلى إنقسام الأمة الإسلامية إلى دولتين متعاديتين ، دولة مع الخليفة ودولة معارضة للخليفة وخاصة أنه كان يعلم نوايا معاوية الحقيقية ، اضطر الخليفة علي عليه السلام للخروج إلى الشام لعزل معاوية من منصبه ، وإلتقى الجيشان في معركة «صِفّين»، ودار القتال بينهما . ولكن عندما رأى معاوية أن جيشه سيخسر المعركة استخدم اسلوب الخدعة لوقف القتال ، وطلب من جيشه رفع المصاحف على رؤوس رماحهم ، كحركة لها معنى دعوة الجيش الآخر للاحتكام إلى القرآن، وبالرغم أنّ الخليفة كان يعلم أنّها مجرد خدعة من معاوية لكسب الوقت إلا أنه اضطر إلى القبول بها لحقن دماء المسلمين حيث بلغ عدد الضحايا من الجيشين في تلك المعركة أكثر من ٧٠ ألف قتيل وخاصة أنه كان يعلم أن المسلمين الذين يقاتلون مع معاوية معظمهم كانوا بسطاء العقول انخدعوا بآراء معاوية بفكرة ضرورة الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه لتحقيق العدالة ، فجاؤوا معه يقاتلون معه ظانين أنهم يدافعون عن الحق دون أن يعلموا أنهم كانوا يدافعون عن مصالح معاوية الشخصية . فمن أجل هؤلاء المساكين فضّل علي عليه السلام أن تنتهي المعركة وأن يترك أمره لله عز وجل .
ولكن الذي حصل بعد إنتهاء المعركة أن في جيش علي عليه السلام ظهرت فئة رفضت أمر التحكيم ووقف القتال واعتبروها أنها مجرد خدعة من معاوية لينقذ نفسه من الموت ، وأن ما فعله علي عليه السلام بقبول وقف القتال لم يكن إلا السكوت عن النفاق ، هذه الفئة المعارضة إنقسمت إلى قسمين : الأول هم مذهب الخوارج الذين بايعوا لعبدالله بن وهب الراسبي ليكون قائدهم حيث كفروا معاوية وكفروا علي عليه السلام وكان رأيهم أنه يستوجب عليهم قتلهم واستباحة أموالهم . أما القسم الثاني وهم مذهب الإباضية التي رفضت حمل السلاح ضد الطرفين ، فقط كان لها رأي أن علي عليه السلام قد أخطأ بقرار وقف القتال لأن ما فعله معاوية برفع المصاحف كان مجرد خدعة ونفاق .
مذهب الخوارج بسبب تشدده وتعصبه الأعمى لم يتقبله المسلمون لهذا إنقرض بعد تأسيسه بفترة قصيرة من الزمن ، أما مذهب الإباضية فبعد وفاة علي عليه السلام وعندما رأى بعض المسلمين معاوية على حقيقته وأنه فعلا حارب بجيشه ضد علي عليه السلام من أجل مصالحه الشخصية وليس من أجل القصاص لدم عثمان رضي الله وكذلك بسبب فساد الحكم في عهد معاوية وبني أمية من بعده وبسبب التأثير السلبي لهؤلاء الحكام على تشويه طائفة السنة والجماعة ، رأى هؤلاء المسلمين أن أتباع مذهب الإباضية كانوا على حق فانضموا إلى هذا المذهب وخاصة أنه كان يستند على أمور أكثر عقلانية من عقيدة الخوارج ، ومن أهمها أن طائفة الجماعة والسنة في عهد الدولة الأموية كانوا يؤمنون بعدالة جميع الصحابة بدون أي إستثناء ، وبوجوب السكوت عما جرى بين الصحابة، وإثبات أجر الاجتهاد لهم سواء أصابوا أو أخطأوا ، وكذلك وجوب السمع والطاعة للحاكم وعدم جواز الخروج عليه . وإن كان فاسقا وظالما ، فكما يقول النووي الذي هو وأحد من أبرز فُقهاء الشافعية «وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين» ، أما الإباضية فكانت تعارض ذلك وتستند على بعض الآيات والأحاديث الشريفة ومنها (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) فمذهب الإباضية يحث على مجاهدة الوالي الظالم والجائر ، ولكن على شرط عدم إيذاء المصلحة العامة للأمة. هنا أود أن أقول أن جميع المذاهب في هذا الموضوع على حق ، فكل ظرف له وضعه الخاص لإتخاذ القرار الصحيح الذي يناسبه . لهذا كانت الحكمة الإلهية أن تعرض لنا عدة وجهات نظر للإختيار القرار المناسب للوضع في تلك الظروف الخاصة به . لهذا نجد عبر التاريخ أن هناك ثورات نجحت وإزدهرت بفضلها البلاد وثورات أخرى فشلت ودمرت البلاد وشعبها لعن أصحاب الثورة .
حسب تعاليم مذهب الإباضية أيضا أنهم يعارضون مبدأ أن تكون الخلافة للقريشيين فقط ويعارضون مبدأ توريث الخلافة الذي طبقه معاوية واستمر من بعده ، فتعاليم مذهبهم أن الخلافة هي من حق المسلم الأكثر كفاءة وعلما وإيمانا . لهذا الأباضيون يعتبرون أن مذهبهم هو أول مذهب ديمقراطي في تاريخ الأمة الاسلامية .
هذه الإعتقادات في الإباضية ساهمت في أن تجعل مذهب الإباضية أن يثبت وجوده على الساحة الإسلامية ليستقل بذاته ويحافظ على وجوده حتى اليوم ، فرغم محاولات بقية المذاهب في تشويه صورتهم وإتهامهم بأنهم من الخوراج وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقضاء عليهم . ولكن الحقيقة ليست كذلك ولهذا نجد أن بعض علماء السنة المعاصرين يحاولون تصحيح تلك الصورة المشوهة التي رسمها علماء المذاهب الأخرى عن مذهب الإباضية في عهد الدولة الأموية والعباسية وذلك فقط لإرضاء السلطات الحاكمة .
الإباضية بسبب إستقلالها عن المذاهب الأخرى طّورت معتقداتها حسب وجهة نظرها للأمور المتعلقة بالدين نذكر أهمها التي تختلف عن بقية المذاهب :
- مسألة حقيقة الإيمان : الإباضية تعتقد أن النطق بالشهادتين وحده لا يكفي لأن يكون الإنسان مسلما، فالإسلام هو قول وعمل، ولا يتم إسلام المرء إِلاَّ بهما معا ، أما الذي ينطق بالشهادتين ويسلك سلوك مخالف لتعاليم الاسلام فهو بالنسبة لهم ليس مسلما . لهذا فهم يرون أن شفاعة الرسول لن تكون لمن مات وهو مصر على الكبائر, وإنما تكون فقط للمسلمين عامة للتخفيف عنهم يوم الحساب .
- مسألة رؤية الله : الإباضية يرفضون الإعتقاد بإمكانية رؤية الله في الدنيا والآخرة، فحسب إعتقادهم أنه لو أمكن رؤية الله ، لكان الله جسما له شكل ولون وهذا بالنسبة لهم تجسيم وتجزئة لصفات الله ، ويستندون في إعتقادهم على الآية القرآنية " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " فالرؤية عندهم تكون بغير البصر لأن الله أرقى من أن تحدده عين إنسان . في هذا الإعتقاد بإمكانية رؤية الله ، توافق عليه الفرق الإسلامية الشِِّيعة والمعتزلة أما السنَّة والسلفية وغيرهم ، يقولون: إِنَّ رؤية الله ممكنة . وفي أهل السنة اختلفوا على ثلاثة أقوال : الأول : أن الله في الآخرة لا يراه إِلاَّ المؤمنون. والثاني: يراه المؤمنون والكافرون ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك. والثالث: يراه المنافقون دون الكفار .
- مسألة خلق القرآن : بالنسبة لمذهب الإباضية القرآن الكريم مخلوق كغيره من المخلوقات خلقه الله عز وجل في وقت محدد وهذا الاعتقاد على عكس إعتقاد أهل السنة الذين يعتقدون بأنَّ القرآن الكريم هو كلام الله تكلم به عز وجل وبالتالي فهو صفة من صفات الله ولا يجوز أن يكون مخلوقا.
هذه الإختلافات بين المذهبين في مسألة رؤية الله وخلق القرآن ليست تناقض ، ولكن هو إختلاف في زاوية الرؤية ، فكما شرحنا في مقالات ماضية أن معنى الله مختلف بين المسيحية والإسلام فالمسيحية تقصد بكلمة (الرب) تلك الروح الإلهية التي دخلت الثقب الأسود البدائي ثم استطاعت تكوين الكون ، أما الاسلام فيقصد بكلمة (الله) الذي هو خارج هذا الكون وهوخالق ما داخل الكون وخارجه . فبسبب هذا الإختلاف في القصد من كلمة (رب - الله) نشأت هذه الإختلافات ، هذا الموضوع سنتحدث عنه إن شاءالله في مقالة القادمة عندما ننتقل إلى شرح التيارات الفكرية الإسلامية .
الآن لننتقل إلى الخطوة الثالثة في ظهور الإختلافات ، بعد إغتيال علي عليه السلام ، تم مبايعة ابنه الحسن عليه السلام ليكون خليفة للمسلمين ، ولكن كون الحسن تربية جده محمد وأبيه علي وامه فاطمة صلوات الله عليهم ، وكونه ورث الحكمة منهم ، وكونه يعلم تماما بأن معاوية لن يتخلى عن منصبه مهما كان ، لهذا فضّل التنازل عن الخلافة لمعاوية لحقن دماء المسلمين رغم أن مبايعته كانت على الشروط الصحيحة وليس وراثة عن أبيه . وكذلك من أجل الحفاظ على أن تبقى الأمة الاسلامية دولة واحدة ،لهذا كان أهم شرط في معاهدة الصلح بينهما أن تعود الخلافة له أو لأخيه في حال موته بعد وفاة معاوية ، فبهذا الشرط كان الحسن عليه السلام يأمل أن تنتهي العداوة التي كانت تنتشر وتقوى بين الفريقين بهدوء وسلام ، فحسب اجتهاده أن معاوية سيحكم بضعة سنين ولكن مع موته وحسب الإتفاقية ستعود الخلافة له أو لأخيه وعندها يمكن لأمور الأمة الإسلامية ان تعود إلى صراطها المستقيم .
ولكن الذي حصل أن معاوية استغل فرصة وجوده في السلطة على شؤون الأمة فكان أول ما فعله هو تكوين دولة ديكتاتورية سمحت للاسلام السياسي أن يأخذ نفوذه ليلعب دور حاسم في محاولة تشويه هوية الاسلام ، وحتى يحافظ معاوية على مصالحه ومصالح بني أمية دفع أتباعه إلى تسميم وقتل الحسن عليه السلام ، وإضافة إلى ذلك أنه استخدم اسلوب القمع والإرهاب في حق كل من يمدح أهل البيت ، وأكرم بسخاء كل من يمدحه ويمدح بني أمية ، هذه الظروف التي فرضها معاوية على المسلمين ساهمت في ظهور شيوخ منافقين يكتبون الحديث وينسبوه إلى الرسول ليطعنوا بعلي وأهل البيت وفي الوقت نفسه ليرفعوا مكانة معاوية وبني أمية في نظر المسلمين . فبدأ يحدث في هذه الفترة نوع من تشويه في تعاليم الاسلام . المسلمين شعروا بخطورة ما يحدث والعديد منهم اشتكوا للحسين عليه السلام ولكن الحسين كان يتمهل وينتظر وفاة معاوية لتخرج الخلافة من بني أمية حسب شروط الإتفاقية بين معاوية والحسن عليه السلام ، ولكن الأمور زادت في التدهور نحو الأسوأ عندما نقض معاوية شروط الإتفاقية وولى ابنه الفاسق يزيد ليكون خليفة بعده ، فهاج عدد كبير من المسلمين على هذا القرار ، وطالبوا الحسين بالخروج على يزيد لخلعه من منصبه ، ولكن تهديدات يزيد للمسلمين جعلتهم يخذلوا الحسين عليه السلام ، فكما قال الفرزدق للحسين بعبارته الشهيرة عن وضع المسلمين (قلوبهم معك ، ولكن سيوفهم عليك) . فوجد الحسين نفسه مع شلة قليلة من أهله تتألف من ٧٣ شخص فقط يواجهون جيش يتألف من ٣٠٠٠٠ رجل في معركة كربلاء ، حيث استشهد فيها الحسين واستشهد معه عدد كبير من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاربه .
معركة الكربلاء أو بالأحرى مجزرة الكربلاء تُعتبر بداية لمرحلة هامة جدا في تاريخ الأمة الاسلامية لم ينتبه لها علماء المسلمين حتى الآن . وكما يقول الله في سورة فاطر (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ٤٣) ،فمجزرة الكربلاء في حق أهل البيت أحدَث نوع من الصدمة في المسلمين أدت إلى نوع من التوحيد بين مسلمي العرب الصالحين ومسلمي الفرس الصالحين ، حيث أن المسلمين الذين طالبوا الحسين بالخروج على يزيد ووعدوه بأنهم سيحاربون معه ثم خذلوه كان معظمهم من العرب . ولكن كون شهربانو زوجة الحسين كانت فارسية وحصل لعائلتها ما حصل في مجزرة الكربلاء ، هذا الأمر دفع العديد من مسلمين الفرس الى التعاطف مع أهل البيت والذي أدى إلى تحول شيعة علي من عرب إلى شيعة متنوعة القوميات ليس كعرق ولكن كفكر ، فالفرس بسبب إحتكاكهم مع شعوب بلاد الهند من طرف وباليونانيين من طرف آخر كان قد جعلهم يكتسبوا الكثير من علومهم وحضارتهم ، فكانت مجزرة الكربلاء الخطوة الاولى من انفتاح الاسلام على علوم الحضارات العالمية . فكما ذكرنا في البداية أن دور علي عليه السلام كان تكوين امة اسلامية منفتحة فكريا على جميع الأمم بشكل يدفع الإنسانية في الانتقال إلى مرحلة روحية جديدة ، فزواج الحسين من إمرأة فارسية وكذلك مجزرة الكربلاء وضعت طائفة شيعة علي عليه السلام في هذا الطريق لتستمر به وتنميه .
للأسف بعض علماء السنة اليوم يحاولون الطعن بطائفة الشيعة بسبب إنضمام الفرس لها ، فحسب رأيهم أن طائفة الشيعة ذات نزعة شعوبية فارسية ، وأنهم لا ينظرون نظرة تقوى أي إسلام وكفر , وإنما نظرة قومية أي فرس وعرب ، ويؤكد هؤلاء العلماء على صحة إعتقادهم هذا أن تعظيم الشيعة يحصل فقط لأولاد الحسين دون أولاد الحسن والسبب أن أمه فارسية ، فيرون أن الشيعة أهدافهم قومية سياسية وليست اسلامية . هنا أود أن أقول لأمثال هؤلاء العلماء الضالين من السنة الذين ينظرون للأمور من زاوية اسلام سياسي وليس اسلام ديني ، أن الحسين هو حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابناءه وأحفاده هم من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلى الأقل وجب على هؤلاء العلماء احترام هذه الذرية النبوية التي ورثت علم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فزواج الحسين من شهربانو الفارسية لم يكن زواج متعة ولكن حكمة إلهية لتؤدي شيعة علي هذا الدور الذي تكلمت عنه قبل قليل . فثلاثة من أولاد الحسن (القاسم ، عبدالله ، أبو بكر ) عليهم السلام استشهدوا في مجزرة الكربلاء ، أما زيد والحسين وعمرو وطلحة عليهم السلام فلا يعلم عنهم أحد شيئا ، أين أخبارهم في كتب السنة لا توجد روايات عنهم في كتبهم ، أنا شخصيا بحثت ولم أجد شيئا لأكتب عنهم ، فإذا كان هناك فعلا ظلم تاريخي في حقهم -والله أعلم- فهذا الظلم مسؤولون عنه السنة والشيعة وليس الشيعة فقط . لهذا لا يجوز خلق بدع من هذا النوع لنشر الفتنة بين المذاهب .
لا أحد ينكر أن هناك منافقين فرس اندسوا في شيعة علي ليقوموا بدورهم السياسي - كما فعل أتباع معاوية - فكتبوا أحاديث ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودسوها في كتبهم وحاولوا الغلو بأئمة أهل البيت ، فلا أحد ينكر هذا الأمر ، فمثل هؤلاء المنافقين موجودين في جميع المذاهب وهدفهم نشر العداوة والبغضاء بين المذاهب . ولكن هنا نتكلم عن الفرس المسلمين الصالحين الذين إنضموا إلى أهل البيت بسبب حبهم لهم وإيمانهم بالحق . يقول رسولُ اللهِ "صـلى اللهُ عليهِ و سلـم " : ( لا فرق بين عربي و لا أعجمي و لا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى) . لهذا يجب التفريق بين علماء أتباع المذهب السياسي (المنافقين) وعلماء أتباع المذهب الديني (الصالحين) ولا يجوز الخلط بينهما وإتهام طائفة بأكملها بما ليس فيها . يقول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ... ١٢ الحجرات) . يجب على المسلم العاقل الذي يخاف الله ويبحث عن الحقيقة أن يدافع عن الاسلام أينما كان فهو فوق جميع الإنتماءات المذهبية .
ز . سانا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق