الخميس، 22 أكتوبر 2020

الخاطرة ٢٦٥ : حقيقة السحر ، وخرافة حديث السحر ؟


الخاطرة ٢٦٥ : حقيقة السحر ، وخرافة حديث السحر ؟

            في المقالة ما قبل الماضية تكلمنا عن تناقض كتاب صحيح البخاري مع أهم مبدأ وضعه الله في تكوين الدين وهو ثنائية الرسالة (روحية - مادية)  وفي المقالة الماضية أيضا تكلمنا عن تناقض حديث المداواة ببول الإبل مع التكوين الروحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واليوم سنتكلم عن حقيقة السحر لنُثبت أن حديث سحر الرسول في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث ، هو حديث باطل يُسيء لشخصية رسول الله ويساهم في تخلف المجتمع . ولنبين أيضا بأن صفات وسلوك هذا الشخص الموجود في صحيح البخاري مختلفة تماما عن صفات وسلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبسبب هذا التشويه في شخصية رسول الله دخلت الأمة الإسلامية في عصر الإنحطاط  ولا تزال حتى الآن . فكون علماء هذه الأمة أتبعوا سنة هذا الشخص المزيف في صحيح البخاري كان من الطبيعي أن يهجر الله ورسوله هذه الأمة لتتحول إلى أمة متخلفة روحيا وماديا تعبث بها جميع الأمم . فإذا تمعنا جيدا في سنة الشخص الموجود في صحيح البخاري سنجد أنها مطابقة لسلوك ونوعية عقيدة هذه الأمة المتخلفة التي تختلف كل الإختلاف عن الأمة الإسلامية في عصر ظهور الإسلام وازدهار حضارتها التي سارت على سنة الله ورسوله الحقيقي .   فلا شيء يحدث صدفة ولكن يسير على مبدأ القانون الإلهي {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (٣٠) الشورى} .

          الكثير من العلماء بفروع علمية مختلفة حاول إثبات عدم صحة حديث سحر الرسول ، ولكن هنا سنضيف أدلة فلسفية لم يراها علماء الدين لا في القرآن الكريم ولا في الكتب المقدسة الأخرى .

         حديث سحر الرسول نصه في صحيح البخاري كالآتي (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أُشْعِرْتُ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؛ أَتَانِي رَجُلانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُؤوسَ نَخْلِهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ) .

  الحديث جاء في عدة روايات في صحيح البخاري ومسلم وكتب أخرى . ولكن حتى نفهم الحادثة بشكل عام نستطيع أن نلخصها بالشكل التالي ( أن أحد الرجال حصل على بعض شعرات من شعر الرسول ، فصنع تمثالا من شمع للرسول  ووضع فيه هذه الشعرات وغرزه بعدة إبر ورماه في بئر ، فأصيب الرسول بالسحر لفترة زمنية بعضهم يقول بأنها ستة أشهر وبعضهم يقول بأنها كانت /٤٠/ يوما . فأصبح الرسول يخيّل إليه أنه فعل أشياء دون أن يفعلها في الواقع . أو حسب رأي البعض الآخر أنه أصبح يخيّل إليه أنه يستطيع فعل أشياء ولكن في الواقع لم يكن يستطيع فعلها ، أي بمفهوم مبسط أنه تحول إلى رجل (مخبول) لا يدري ماذا يحصل معه (حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحصل به هذا)  .فأتى إليه ملكين وأخبروه أنه مسحور ، وأن سبب سحره هو التمثال الشمعي الموجود في بئر ذروان ، فذهب الرسول إلى البئر ، هناك روايات تذكر بأنه استخرج التمثال وأبطل مفعوله وروايات أخرى تذكر بأنه لم يستخرجه ولكنه أبطل مفعول السحر عن طريق دفن البئر .

           بعض العلماء ينكرون بشدة صحة هذا الحديث فمثلا العلامة أبو بكر الجصاص الحنفي يؤكد أن هذا الحديث من وضع الملحدين هدفه تشويه شخصية النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن حسب رأي معظم العلماء السنة والجماعة اليوم بأن هذا الحديث يحقق جميع شروط الحديث الصحيح ولا يمكن لأحد إنكاره . فهؤلاء العلماء يؤمنون بوجود السحر وبأنه أصاب أيضا الرسول ويستندون في رأيهم هذا أن موسى عليه الصلاة والسلام هو أيضا قد سُحر كما تذكر الآية القرآنية { قالَ بَل أَلقوا فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سحرِهِم أَنَّها تَسعى  (٦٦) طه} .

           قبل أن نشرح تعارض هذه الآية القرآنية مع الحديث ، لا بد لنا أن نشرح المعنى الحقيقي لمفهوم (السحر) وما يتعلق به . فمعنى السحر بشكل مبسط - حسب رأي العلماء الذين يدافعون عن صحة الحديث - السحر هو الإستعانة بالشياطين للقيام بعمل خارق لا يمكن للإنسان الطبيعي أن يقوم به . والمقصود بالشياطين هنا هم الجن .

           هذا التعريف الفقهي لمفهوم السحر هو تعريف متخلف علميا يصلح للعصور القديمة عندما كان مستوى علومهم المادية لا تتعدى مستوى علوم المرحلة الإبتدائية في عصرنا الحاضر . ففي تلك العصور كان فهم الإنسان لما يجري حوله تعتمد على الفكر وليس على البحث التجريبي، فكان كل شيء يحصل حولهم ولا يستطيعون فهمه ينسبونه إلى قوى ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) . لهذا تم تفسير مفهوم السحر في آيات القرآن والكتب المقدسة بهذا المعنى .  أما المفهوم الحقيقي لكلمة السحر فهو كما هو معناه في اللغة العربية ، فالسحر لغويا هو كل ما خفي مأخذه ، أي هو كل عمل لا يمكن للعقل فهم سببه ، وهذا يعني أن السحر ليس سببه شيء خارق لقوانين الطبيعة ولكن سببه هو جهل الإنسان لأسباب حدوث هذا العمل . ولهذا نجد مع تقدم العلوم والتكنولوجيا أن الكثير من أعمال السحر التي كان يقوم بها السحرة في الماضي أصبحت اليوم أشياء بسيطة يمكن لطفل صغير أن يتعلمها ويقوم بها بدون الحاجة للإستعانة بالجن. فكثير من أعمال السحر اليوم تم  تفسيرها علميا . ففي عام ١٩٦٤ قام الساحر العالمي جيمس راندي بتحدي كل من يدعي أنه يستطيع القيام بأعمال سحر ، وعرض في البداية جائزة بقيمة ١٠٠٠ دولار لكل من يقوم بعمل خارق لا يستطيع جيمس براندي أنه يكشف خدعته ، ثم ارتفعت قيمة الجائزة بالتدريج حتى وصلت إلى مبلغ مليون دولار . ورغم مشاركة الآلاف من السحرة ولكن جميعهم فشلوا في إثبات قدرتهم على فعل السحر أو الأعمال الخارقة . حيث خبرة جيمس راندي في هذه المهنة استطاعت أن تكشف طريقة الخداع البصري التي يقوم بها هؤلاء السحرة لتبدو أمام أعين الناس وكأنها فعلا سحر أو أعمال خارقة ، ولكن في الحقيقة كانت جميعها مجرد براعة في خفة اليد تجعل المشاهد لا يفهم ما تراه عيناه .

            أيضا في أحد البرامج التلفزيونية ، عالم النفس الدكتور أحمد عمارة أنكر وجود السحر ، وتحدى كل من يدعي بأنه يتعامل مع الجن أن يسحره إذا كان يستطيع ذلك . ورغم مرور ستة سنوات على ذلك البرنامج التلفزيوني ، ولكن لم يحدث أي شيء للدكتور أحمد عمارة ، ولا يزال حتى الآن يُنكر السحر وينكر وجود أي تعاون بين الإنس والجن . هناك أيضا شيوخ وعلماء نفس آخرين أنكروا مقدرة الإنسان على الاستعانة بقوة الجن ،  وتحدوا كل من يزعم أنه يفك السحر أو يتعامل مع الجن أن يطبق سحره عليهم إذا كانوا صادقين . فجميع القصص التي تتكلم عن الاستعانة بالجن للتأثير على تصرفات وسلوك الآخرين  هي مجرد خرافات لا يصدقها سوى بسطاء العقول. 

           هناك حقيقة واقعية لا يمكن لأحد إنكارها  ، ففي المجتمع المتدين وبسبب تخلف  علوم علماء الدين وكثرة المشعوذين فيه نجد معظم أفراده يؤمنون بوجود عالم الجن ، فنجد أن مثل  هذه المواضيع  تشغل فكرهم كثيرا وتلعب دورا في  سلوكهم وطريقة حياتهم. وكأنه فعلا  هناك عالم من الجن يحيط بهم ، فنسمع أن أحدهم (مخاوي) أي أنه يجتمع بالجن ويتكلم معهم  وآخر أنه قد تزوج من جنية ، وآخر بأن أحد الجان يمنعه من الدراسة ، أو من إنجاب اﻷطفال ، أو أن الجن تريد أن تفرقه عن زوجته غصبا عنه  ، ونسمع أيضا أن شخص مسه الجن ، أي أنه دخل في جسمه وجعله يتكلم بصورة غريبة بعيدة عن المنطق. 

              أما في المجتمعات العلمانية التي  لا يهمها الدين أو لا تؤمن بوجود الله فنجد أفراده لا يؤمنون نهائيا بوجود عالم الجن ولا أحد منهم يتكلم عن الجن ﻷنهم فعلا لا يشعرون إطلاقا بوجود مثل هذه المخلوقات حولهم  كي يخافوا منها أو يذكروا عنها قصصا وأحداثا غريبة ، رغم أن هذه المجتمعات نفسها كانت في الماضي هي أيضا تؤمن بوجود الجن ، ولكن مع تقدم مستوى علومهم أصبحت هذه المعتقدات بالنسبة للأجيال الجديدة هي مجرد خرافات .

          والسؤال هنا كيف يحدث أن عالم الجن موجود فقط في المجتمعات  المتدينة فتستطيع إيذاء أفرادها المتدينين ، بينما عالم الجن غير موجود في المجتمعات العلمانية فلا أحد منها يشعر بوجودهم ولا أحد يصيبه الأذى منهم؟

            الجواب على هذا السؤال هو أن علماء الدين هم أنفسهم لم يفهموا جيدا معنى الجن ومعنى الشيطان . فالملحد والذي يستخدم الرؤية المادية فقط  لن يرى أو يشعر بوجود عالم الجن نهائيا والسبب هو أن كلمة الجن هي مصطلح روحي ، ومثل هذه المصطلحات لها معاني روحية لا يمكن أن نفهمها إلا بوجود إدراك روحي لما يجري حولنا ، ﻷن عالم الجن كمفهومه المعروف عند عامة الشعب هو عالم خرافي ليس له أي وجود. 

          في مقالة رقم ٥٩ (القرين بين الحقيقة والدجل) والمقالة رقم ٦٠(حقيقة عالم الجن) وكذلك رقم ٦١ (المس الشيطاني والأمراض النفسية) ، ذكرت بشكل مفصل أن عالم الجن هو عالم خرافي لا وجود له في حياة الإنسان ، وأن المقصود بالجن هو كل ما يخص حاجاتنا المادية ، فكل إنسان في داخله جان (قرين) ، وأن تكوين كل إنسان يتألف من إنس وجن . الإنس هو الذي يجعلنا نشعر بالعالم الروحي حولنا ، أما الجن فهو الذي يجعلنا نشعر بالعالم المادي حولنا . 

          فمصدر كلمة جن هو فعل جَنَّ : استتر . جَنَّ الشيءَ : ستره. و جَنَّ الميِّتَ: كفَّنه أي غطاه وستره بقميص الكفن . فالجان هو الجسد الذي يستر الروح  في داخله ، أي أن الروح هي الأنس والجسد هو الجن. لهذا نجد أن موسى عليه الصلاة والسلام يطلب من الله أن يرسل معه أخاه هارون ليساعده في كلامه مع فرعون  (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) ، فموسى كان هو المسؤول عن القسم الروحي في رسالته ، أما هارون فكان ردءاً يصدّق موسى في رسالته لأنه كان مسؤولا عن القسم المادي لهذه الرسالة . فموسى هنا هو رمز الإنس،  أما هارون فهو رمز الجن . ونفس الأمر أيضا بالنسبة لعيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام،  ولهذا الحكمة الإلهية حوَّلت أسم يحيى في اللغات الأوروبيه إلى أسم (جان) وهذا الأسم في اللغة العربية هو مفرد جن . وكما تذكر الكتب المقدسة أن النبي يحيى (جان) تم قتله  بقطع رأسه . فهذه الحادثة ليست صدفة ولكن رمز روحي له معنى أن النبي يحيى هو المسؤول عن الجسد .

          أيضا الحكمة الإلهية في تطور الإنسانية وضعت علامة على هذا المبدأ ، فأول عمل فني روحي ظهر في تاريخ البشرية ليُعبر تماما عن التكوين الإنساني ، هو تمثال أبو الهول ،حيث القسم الأعلى منه (رأسه) هو رأس إنسان ، وهو رمز الإنس في تكوين الإنسان ، أما القسم السفلي (جسده) فهو جسد أسد وهو رمز الجن في تكوين الإنسان ، لهذا كان معنى أسم هارون (القط الكبير) أي أن معناه هو رمز الأسد . ولهذا أيضا كان أسم علي عليه السلام عند ولادته (حيدرة) ومعناه أسد ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد سماه (علي) . فالرسول في الإسلام هو رمز الإنس ، أما علي فهو رمز الجن . والجن له أسم آخر وهو (القرين) ومعنى قرين هو (النظير) . وكما ذكرنا في المقالة رقم (٣٦٣) أن هنا علاقة تناظر بين الإسمين (أحمد - علي) في القيمة الرقمية بين الإسمين (٣٥٨ -٨٥٣) . وأيضا يوجد نفس العلاقة بين الاسمين (عيسى - جان) ولكن علاقة التناظر هنا هي تناظر حرفي أي (ناج - جان) . فكلمة ناج التي ترمز لأسم عيسى مصدرها هو فعل (نجى ، ينجو) وهو نفس معنى أسم يسوع في اللغة العبرية (الله يُنجي) . وعلاقة التناظر هذه موجودة أيضا في بين الأسمين (موسى - هارون) أيضا ، فإذا عكسنا أحرف كلمة هارون (هرون) حسب ترتيبها سنحصل على كلمة (نوره) ، أي أن موسى هو النور وهارون هو ظله ، فحتى نستطيع رؤية الشيء بكامل تفاصيله لابد من وجود النور والظل ليأخذ الشيء شكله الثلاثي الأبعاد ، هكذا تماما هي علاقة الروح مع الجسد . أيضا كلمة (نور) لها نفس القيمة الرقمية لاسم (حواء) وأسم (محمد) وتعادل (٦٢) . حيث : 

ن(٢٥)+و(٢٧)+ر(١٠)=ح(٦)+و(٢٧)+أ(١)+ء(٢٨)=م(٢٤)+ح(٦)+م(٢٤)+د(٨)=٦٢

            الحكمة وضعت هذه الرموز بهذه الطرق لتساعدنا في فهم دور الرسل والأنبياء في تطوير التكوين الروحي للإنسانية عبر مراحل تطورها . فالرسل (موسى - عيسى - محمد) عليهم الصلاة والسلام،  أخذوا دور الإنس أي دور المرأة في تطوير القسم الروحي من التكوين الإنساني . أما الأنبياء المساعدين (هارون - يحيى) وعلي عليهم الصلاة والسلام،  فأخذوا دور (الجن) في تطوير القسم المادي من التكوين الإنساني . وبما أن الإسلام هو آخر الديانات ، أي أنه كان آخر مراحل الطفولة في تطور الإنسانية ، حيث فيها تم نزول جميع المساعدات الروحية لتساعد الإنسانية في تطورها ليبدأ الإنسان في الاعتماد على عقله في تحليل وفهم ما يجري حوله ، لهذا توقفت النبوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن علي عليه السلام لم يكن نبيا ، كما يذكر الحديث الشريف (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ولكن كان دوره وضع أسس التحليل العقلي المادي لبيان معاني النصوص الدينية . 

           فجميع الفروع العلمية المادية التي تساعدنا في فهم النصوص الدينية وكذلك فهم طريقة سلوك الأشياء من حولنا سواء كعناصر حية أو مادية (فيزياء، كيمياء ،طب .... إلخ) هي علوم (جنية) ، أما العلوم الروحية التي تتعلق بالسلوك الروحي للإنسانية فهي علوم (إنسية) .الحكمة الإلهية وضعت هذه الفكرة بشكل رمزي في القرآن الكريم في قصة حياة سليمان ، فالقرآن يذكر أن الجن هم من قاموا ببناء معبد سليمان ، بينما الكتب المقدسة في الديانة اليهودية والمسيحية تذكر ان الذين بنوا هذا المعبد  كانوا بشر عاديين يعملون في البناء . لذلك نجد أن اليهود والمسيحيين يظنون بأن القرآن قد قام  بتحريف قصة سليمان. ولكن الحقيقة هي أنه  لا يوجد أي تحريف لحادثة بناء معبد سليمان ، ولكن هناك نظرتين من زوايا مختلفة ، القرآن يذكر النظرة الروحية للحادثة ، بينما سفر الملوك اﻷول  ينظر إلى الحادثة من زاوية مادية يشرح ما حصل بشكل حرفي . أي أنه يشرح الحادثة كما ستراها عين اﻹنسان العادي أثناء عملية بناء الهيكل. فاﻹنسان عندما تكون مسؤوليته تحقيق عمل مادي عندها تكون نوعية عمله عمل (جني).  فعندما يخاطب الله في قوله ( يا معشر اﻹنس والجن ) هنا لا يعني أنه يخاطب  الناس ومخلوقات أخرى ولكن يخاطب عالم الناس فقط الذي يتألف من أناس يقومون بتأمين الحاجات الروحية (أنس) وأناس يقومون بتأمين الحاجات المادية (جن)  ، فعالم الجن بمعناه التقليدي هو عالم خرافي غير موجود في الواقع . أيضا الحكمة الإلهية في سورة النمل أعطتنا مثالا يساعدنا في فهم الفرق بين عمل الجن وعمل الإنس ( قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴿٣٩﴾ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴿٤٠﴾) . هذه الحادثة هي حادثة رمزية وليست واقعية لم تُذكر في أي كتاب مقدس سوى القرآن الكريم  ، فسليمان المذكور هنا ليس المقصود به سليمان ابن داود عليهما الصلاة والسلام. ولكن المقصود هنا هو معنى أسمه ، فمعنى أسم سليمان في العبرية هو (المحب للسلام) ، أي أن الإنسان الذي يسعى إلى تطبيق مبدأ إنسان أهل الجنة والذي ذكره الله في الآية {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، أمامه نوعين من العلوم في تطوير التكوين الروحي للإنسانية : علوم الجن المادية التي تستطيع أن تأتي بالشيء من خلال صورة له أو من خلال تكوين شكل البرج باستخدام الأشعة كما يحصل اليوم ، حيث يستطيع شخص ما موجود في باريس من تصوير برج إيفل مثلا وإرسال هذه الصورة لشخص موجود في الصين خلال ثوان قليلة ، أو يمكن أيضا من خلال أستخدام أشعة الليزر أن يقوم بتصميم برج إيفل نفسه في الصين وكأنه موجود فعلا في الصين . فهذه الطرق أصبحت اليوم بالنسبة للعلماء أشياء ممكن تحقيقها ، أما علوم الإنس الروحية ( علم الكتاب) فهي أرقى بكثير من هذه العلوم المادية حيث يمكن فيها نقل برج إيفل نفسه من باريس إلى الصين في مدة لا تتجاوز الأجزاء من الثانية ، وهذه العملية نظريا في فيزياء الكم ممكنة ، ولكن تحقيقها تجريبيا فهو أمر مستحيل لأنها من علم الكتاب .

          هناك الكثير من الأحداث دفعت البعض بالإيمان بوجود الجن بسبب عدم فهم سببها الحقيقي ، فمثلا هناك قصص تذكر أن شخصا ما دخله الجن فتحول إلى شخص آخر ، فأصبح سلوكه غريبا عن المألوف ، منها مثلا أنه أصبح فجأة يتكلم بلغة غريبة . علم النفس اليوم يحاول دراسة معظم  هذه التغيرات الفجائية في نفسية الإنسان وإيجاد العلاج لها دون الحاجة إلى تلك الشعوذات التي يستخدمها بعض رجال الدين بحجة محاولة طرد الروح الشريرة التي دخلت المريض . ولكن حتى الآن لم يحققوا نجاح كبير في هذا المجال والسبب أنهم يبحثون في أحداث حياته التي حصلت معه منذ ولادته وحتى الفترة التي بدأت فيها تظهر أعراض المرض النفسي ، ولكن قد تكون أسباب المرض قد حدثت نتيجة أحداث أو ظروف حدثت في حيواته السابقة . فحالة الإضطراب النفسي أو الهلوسة أو إنفصام في الشخصية ، هي في الحقيقة لم تحدث بسبب روح شريرة دخلت فجأة جسد الشخص المريض ، ولكن قد يكون بسبب تلف حدث في عمل بعض خلايا المخ نتيجة حادثة معينة أو بسبب استخدام بعض العقاقير ، أو بسبب ظروف معينة أدت إلى تحطيم ذلك الحاجز الذي يفصل بين حياته التي يعيشها الآن وحيواته التي عاشها في الماضي ، ففي مثل هذه الحالة ينفصل الإنسان عن الواقع الذي يعيشه فجأة ، ويعود بكل كيانه إلى حياته الماضية فينسى الواقع الحقيقي الذي يعيش فيه ويشعر بكل أحاسيسه أنه يعيش في عصر آخر ، فنتيجة اندماج العصرين معا في عقله يُحدث به نوع من الإضطراب النفسي والعقلي ، فيجعله عاجز عن فهم حقيقة ما يحدث معه . فيبدو للآخرين بأن سلوكه تتحكم به روح شريرة ، ولكن الحقيقة أن  روحه نفسها هي التي عادت إلى شكلها الذي كانت عليه في حياته الماضية فجعلته يتصرف بذلك الأسلوب الغريب ، فعندما يجد ردود الفعل ممن حوله تعارض ما يشعر به عندها تصبح ردود فعله هو أيضا نحوهم ردود غريبة أو ربما  قاسية أحيانا كونها ردود فعل أشبه بالدفاع عن النفس . فكما ذكرنا في سلسلة مقالات حقيقة التقمص (٦٢-٦٣-٦٤) أن روح الإنسان حتى تصل إلى الكمال تحتاج إلى تطور تدريجي وهذا يحدث  عن طريق ولادتها في جسد جديد عدة مرات بالتناوب بين التطور الروحي والتطور المادي ، فمرة يكون التطور في تكوينها الروحي (الإنسي) فتولد في الشعوب الشرقية ، ومرة يكون التطور في تكوينها المادي (الجني) فتولد في الشعوب الغربية ... وهكذا حتى تصل إلى الكمال الروحي والجسدي . ولكن بعض الأحيان وبسبب ظروف معينة يحدث تداخل بين الحيوات الماضية والحياة الحاضرة فينتج عن هذا التداخل ظهور بعض التغيرات في السلوك النفسي . وتتوقف نوعية هذه التغييرات على نوعية مستوى تطور روح الإنسان نفسه ، فإذا كانت روحه في مستوى عال من التطور عندها قد يكون تأثير هذه التغيرات على سلوك الإنسان تأثير إيجابي فقد تفتح له آفاق جديدة في نوعية إدراكه لما يحدث حوله ، أما إذا كانت روحه في مستوى منخفض من التطور عندها يكون تأثيرها سلبي على سلوكه فيعود إلى حياته الماضية فينسى كل من حوله ويتحول فجأة إلى شخص شرير همجي كما كان عليه في أسوأ مرحلة من حيواته السابقة ، فيظن الناس من حوله أنه (ممسوس) أي أن روحا شيطانية قد دخلت به لهذا أصبح لا يتعرف عليهم . ولكن الحقيقة أن عدم معرفته لهم سببها كونه في تلك اللحظات قد انفصل عن عالمه الواقعي وأصبح يعيش في عصر ماضي كان فيه أخوته وأصدقائه ومعارفه اشخاص آخرين مختلفين عنهم تماما . 

       لا أحد ينكر وجود قوة روحية عند بعض الأشخاص يستطيعون من خلالها التأثير على بعض الناس ، فالعلم لا ينكر وجود هذه المقدرة ، فكل إنسان له هالة ضوئية تحيط به ، ونوعية هذه الهالة الضوئية  تختلف من شخص إلى شخص آخر ، وهذه الهالة هي عبارة عن طاقة تستطيع التأثير على الحالة النفسية للبعض ممن حولهم . والحسد هو من هذا النوع ، فالحسد يحدث بسبب عدم تطابق نوعيات الطاقة بين شخصين ، وبما أن الطاقة السلبية هي التي تريد الضرر بالآخر ، عندها يتأثر الشخص (المحسود) بها فيشعر فجأة بصداع او تعكر في الحالة النفسية أو الجسدية . ولكن مدة التأثر في هذه الحالة يكون لفترة قصيرة جدا حيث تزول بعد ساعات قليلة من الإبتعاد عن الشخص الحاسد .

          أما السحر كما هو مذكور في الحديث الذي ذكرناه في بداية المقالة فهو يختلف عن الحسد تماما،  فكما تذكر الروايات في صحيح البخاري وغيره أن تأثيره السلبي قد دام لفترة طويلة من أربعين يوم إلى ستة أشهر ، وليس ساعات قليلة . فمثل هذا النوع من السحر هو خرافة لأنه يعارض تماما القانون الإلهي الذي ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم (فَإِذا قَرَأتَ القُرآنَ فَاستَعِذ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ ﴿٩٨﴾  إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ ﴿٩٩﴾ إِنَّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّونَهُ وَالَّذينَ هُم بِهِ مُشرِكونَ ﴿١٠٠﴾  النحل) ، فكيف يمكن لأحد أن يستطيع أن يسحر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله للناس قدوة في إيمانه. فالذي يؤمن بصحة هذا الحديث الباطل وكأنه يعترف بوجود شوائب شيطانية في رسول الله تمكن من خلالها الشيطان في التأثير عليه وهذا مستحيل وإلا لما كان هذا الشخص صالحا لأن يختاره الله رسولا له . 

            وهذا الحديث أيضا يعارض القرآن الكريم في الآية (قالَ بَل أَلقوا فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى ﴿٦٦﴾ طه) فالآية تقول (يُخَيَّلُ إليه أنها تسعى) أي أن الخدعة حصلت في بصر موسى عليه الصلاة 

والسلام فظن أن الحبال تسعى . والقرآن الكريم يؤكد أن الخدعة حصلت على بصر موسى (قالَ أَلقوا فَلَمّا أَلقَوا سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ وَاستَرهَبوهُم وَجاءوا بِسِحرٍ عَظيمٍ ﴿١١٦﴾الأعراف) أي أن السحر حدث على أعين الناس وليس على الحبال لهذا تذكر الآية العبارة ( يُخَيَّل إليه أنها تسعى). أما السحر في الحديث فهو من نوع مختلف ، فهو فلم يحدث على شيء يراه الرسول ولكن على الرسول شخصيا (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ) . فالساحر يمكن أن يخدعنا بمهارته فيجعلنا نرى الحبل يأخذ شكل حية تتحرك ، ولكنه لن يستطيع أن يجعلنا نحن نتحول إلى حية تتحرك كما يشاء هو . فهناك فرق كبير بين الحالتين ، 

فالحالة الأولى هي نوع من الخداع البصري وهذا السحر يزول بمجرد توقفنا عن رؤية ما يفعله الساحر وابتعادنا عنه ، أما في الحالة الثانية فالسحر من  نوع مختلف تماما لأن السحر يبقى معنا لفترة طويلة ليؤثر على سلوكنا ومصيرنا .  فكما يذكر الحديث أن تمثال الشمع أصبح هو جسد الرسول فبدأ يتألم من الأبر المغروزة في التمثال ، وهذا يعني أن الرسول أصبح كالدمية في يد هذا الساحر . فإذا كان باستطاعة الساحر التأثير على سلوك الرسول نفسه ، هذا يعني أن أي ساحر يستطيع أن يلعب بمصير الناس فيجعلهم تحت سيطرته ليدفعهم في طريق الخير أو الشر ، فالإنسان المسحور هو إنسان مسير وليس مخير . فإذا كان هذا ممكن الحدوث لكان السحرة قد استطاعوا السيطرة على مجرى تاريخ الإنسانية ولكان وضعها اليوم مختلف تماما عما هي عليه الآن .

          خلاصة الحديث: مفهوم السحر كما هو في الحديث هو مفهوم خرافي لا يؤمن بوجوده سوى بسطاء العقول ، الذين يبررون سبب عجزهم وفشلهم على الآخرين وليس على أنفسهم . الله خلق الإنسان بأحسن تقويم ليكون هو سيد نفسه فالإنسان مُخير وليس مُسير ، فقد يستطيع البعض وضع ظروف صعبة أمامه لتدفعه في الإنحراف عن الصراط المستقيم ، ولكنه هو الذي سيحدد مصيره إذا كان يريد الإنحراف أم لا . فالآية القرآنية تقول {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (٣٠) الشورى} . فوجود الجن بذلك المفهوم المذكور في الحديث في صحيح البخاري ، يعارض تماما هذه الآية الكريمة . لهذا عالَم الجن غير موجود في المجتمع العلماني ، ولكنه موجود فقط في المجتمعات المتخلفة علميا والتي تقع تحت سيطرة علماء الدين والمشعوذين .

             للأسف هناك العديد من هذا النوع من الأحاديث في صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث . ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من جميع هذه الأحاديث الباطلة التي ساهمت في إنحطاط الامة الإسلامية وجعلتها أمة ضعيفة ممزقة تسخر منها بقية الأمم. والله أعلم .

     ز . سانا





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق