خواطر من الكون المجاور الخاطرة
الخاطرة ٢٦٧ : النبي يوسف وعلاقته بهاروت وماروت.
يقول الله تعالى : ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) البقرة﴾ .
الكثير من المفسرين يستخدمون هذه الآية في إثبات صحة حديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن في الحقيقة أن هذه الآية تساعدنا على فهم المعنى الحقيقي للسحر كما هو مذكور في القرآن الكريم والذي تكلمنا عنه في المقالتين السابقتين ، فالسحر بمعناه الحقيقي هو تلك العمليات التي يُستخدم بها الخداع البصري وألعاب خفة اليد ليُخيل للناس أشياء تحصل أمام أعينهم رغم عدم حصولها ، فالسحر ليس له علاقة بمفهومه الشائع الذي يعتمد التعاون مع الجن والشياطين للقيام بأعمال خارقة أو إكتساب مقدرة يمكن بها السيطرة على سلوك الآخرين وتحديد مصيرهم عن بعد .
إذا تمعنا في تفسيرات العلماء المسلمين لهذه الآية سنجد لها تفسيرات عديدة مختلفة وفي الكثير من الأحيان تناقض بعضها البعض بسبب إختلاف قراءتها . فبعضهم قرأ كلمة (الملكين) بنصبها (المَلَكين) فجعلها من الملائكة ، فقالوا أنهما جبريل وميكائيل ، ومنهم من قرأها بكسرها (المَلِكين) فجعلها من الملوك فقالوا أنهما داود وسليمان . ومنهم من قرأ (وَمَا أُنْزِلَ) على أن (ما) هنا موصولية والمقصود بالآية هو السحر الذي أُنزل على الملكين أيضا ، ومنهم من قرأها على أنها (ما) نافية ، أي أن الذي أُنزل على الملكين هو شيء آخر غير السحر . وبعضهم اعتمد على الاسرائيليات فدمجها بقصة (أبناء الله) المذكورة في الإصحاح السادس من سفر التكوين ، فخرجوا بتفسيرات خرافية تناقض مبدأ القرآن في عصمة الملائكة. ومنها هذا التفسير ( أن الله أنزل الملاكين هاروت وماروت وهما من أصلح الملائكة إلى الأرض ووضع فيهما الشهوة، فكانا يحكمان بين الناس بالحق في النهار ويصعدان للسماء بالليل، حتى جاءتهما امرأة جميلة من فارس ففتنا بها وحكما لها، بل عبدا الصنم حبًا فيها، وعندما رغبا في الصعود للسماء لم تطاوعهما أجنحتهما، فتوجها للنبي أدريس ليشفع فخيّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا وهما للآن معلقان من شعورهما في بابل حتى قيام الساعة).
المشكلة في سبب اختلاف هذه التفسيرات المتعددة لهذه الآية هو عدم وجود حديث صحيح يمكن أن يساعد في البحث فيها ، عدا عن ذلك أن الاسمين (هاروت وماروت) لا وجود لهما في نصوص الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية ، لهذا بعض المفسرين اعتمدوا النصوص التي تذكر قصة الملائكة الساقطة المذكورة في بعض الأسفار أبوكريفا (الغير معترف بها) منها (سفر أخنوخ الأثيوبي) ، وآخرين اعتمدوا على التلمود واعتبروا أن المَلكين هما (شمحزاي وعزائيل) المذكورين في الفصل /٤٧/ في (مدراش يَلْكوت) هما هاروت وماروت ففسروها بناء على قصة هذين الملكين ، ولكن تفسيراتهم هذه لم يتقبلها بقية المفسرين . لهذا ظلت هذه الآية حتى يومنا هذا من أشد آيات القرآن الكريم غموضا رغم أن العديد من العلماء المسلمين يستخدمون معناها الظاهري كدليل على وجود السحر وعلى صحة الحديث الباطل عن سحر الرسول .
أما العلماء الغير مسلمين أو الملحدون فيستخدمون هذه الآية كدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اقتبس قصة هاروت وماروت من الديانات الوثنية ظاناً أنها قصة من التوراة ، فهناك أسماء آلهة في الديانة الزرادشتية مشابهة للإسمين .
في الحقيقة أن الحكمة الإلهية في تطور الشعوب الروحي والمادي وضعت الأمور بتسلسل تدريجي بحيث كل أمة تساهم في تطوير نوع معين من المعارف والعلوم لفهم حقيقة الأشياء والأحداث بحسب حاجة كل عصر من العصور . ولكن الذي حصل في الفترة الأخيرة أنه بدلا من أن تتعاون شعوب العالم مع بعضها البعض في توحيد تراثها ومعارفها لتحصل على رؤية شاملة لفهم الأشياء والأحداث لتتابع تطورها في الإتجاه الصحيح ، حدث نوع من التشويه في طريقة توحيد هذه المعارف ، فبسبب الإنحطاط الروحي الذي أدى إلى ظهور التعصب بأنواعه المختلفة ، حدث توحيد فقط في المعارف المادية أما في المعارف الروحية فحدث العكس تماما ، إنفصال تام بين العلوم المادية والعلوم الروحية ، مما أدى إلى تنمية العداوة والبغضاء ليس فقط بين أتباع الديانات ولكن بين أتباع المذاهب المختلفة التي تنتمي إلى دين واحد .
إذا تمعنا في الآية القرآنية فأول ما نلاحظه أنها تبدأ بحرف الواو (وَاتَّبَعُوا) ، أي أن الآية متصلة بالآية التي تسبقها وهي {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٠١)} . والمقصود بها هو ظهور الدين الإسلامي آخر الديانات السماوية ، الذي نفر منه بعض اليهود . فكلمة (إسلام) مصدرها (سِلم) أي أنه دين يعتمد مبدأ السلام ، لهذا تذكر الآية التي بعدها النبي (سليمان) عليه الصلاة والسلام ، فهذا الاسم له نفس المعنى (رجل السلام) في اللغة العبرية . فحتى نستطيع فهم معاني هذه الآية يجب أن نضع مبدأ السلام كقاعدة يتم عليها تفسير جميع رموز هذه الآية .
جميع علماء المسلمين وغير المسلمين حتى الآن فسروا الآيات المذكورة في القرآن الكريم التي تذكر أسم (سليمان) بأن سليمان هنا المقصود به هو فقط سليمان ابن داود عليهما الصلاة والسلام، فهذا المعنى هو المعنى الظاهري للإسم ، ولكن في الحقيقة أن النبي سليمان ابن داوود بعلومه ومقدراته هو صورة مصغرة عن النبي يوسف عليه الصلاة والسلام الذي أسمه المصري هو (امحوتب) ويعني في اللغة المصرية القديمة (الذي أتى في سلام) ويحمل نفس معنى أسم سليمان ، فالمعنى العام للآية المراد منه هو النبي يوسف ابن يعقوب وليس سليمان بن داوود . فإذا تمعنا جيدا في قصة سليمان كما هي مذكورة في سفر ملوك الأول وسفر أخبار الأيام الثاني ، سنجد أن شخصية سليمان ابن داوود لا تنطبق عليها تلك الصفات العظيمة المذكورة في القرآن . فسليمان المذكور في العهد القديم لم يقم بأي عمل خارق للعادة يجعل منه أسطورة في تراث الشعوب . فالفترة الزمنية التي عاشها سليمان ابن داوود (القرن العاشر قبل الميلاد) هي فترة خالية تماما من الألغاز والأحداث التاريخية الغامضة مثلها مثل بقية الفترات الزمنية ، حيث لا نجد أي أثر تاريخي غامض يمكن اعتباره معجزة انسانية يعجز العقل عن فهمها لا في منطقة فلسطين ولا في جميع المناطق المحيطة بها . حتى أن أسم سليمان لم يُذكر في أي قطعة أثرية في هذه المناطق تدل على وجود ملك عظيم يُسمى سليمان . فجميع ملوك هذه المنطقة لهم آثار تاريخية تدل على وجودهم وتروي عنهم بعض الأحداث من حياتهم سواء كانت هذه الأثريات في بلادهم أو في بلاد أخرى المجاورة تم التعاون معها أو حدث بينها معارك . ولهذا نجد بعض علماء الآثار يعتقدون تماما بأن (سليمان) المذكورة في النصوص الدينية إما أنه شخصية خيالية لا وجود له في الواقع ، أو أنه - إذا كان موجود فعلا - لم يكن ملك دولة مثل بقية الملوك ولكن مجرد زعيم عشيرة بسيطة لم يكن لها أي تأثير على المنطقة أو على مصالح ملوك دول المنطقة ، ولهذا لم يعلم أحد منهم به أو لم يهتم به لأن وجوده وعدم وجوده لم يشكل أي خطرا عليهم .
أما النبي يوسف (امحوتب) فتنطبق عليه جميع تلك الصفات العظيمة المذكورة عن سليمان في النصوص الدينية ، فهو مؤسس عصر الأهرامات الذي عجزت العلوم الحديثة في فك أسرارها الغامضة . حيث أصبحت بلاد مصر فجأة في تلك الفترة من أقوى وأغنى وأرقى الدول من الناحية الاجتماعية والإقتصادية والعلمية في جميع مناطق العالم . فعصر الأهرامات في مصر يُعتبر بداية ظهور الحضارات الإنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى (حضارة) . فعصر الأهرامات هو رمز مرحلة ولادة الإنسانية لتبدأ تطورها الحضاري كمجتمع إنساني روحي مختلف نهائيا عن المجتمعات الحيوانية المادية .
حتى نفهم علاقة النبي يوسف بالآية التي نتحدث عنها ، لا بد من شرح رمز كلمة (بابل) المذكورة في الآية ، فكلمة بابل في اللغة العبرية لها معنيين متناقضين ، المعنى الأول مصدره من كلمة (بلبلة) والتي تشرح بشكل رمزي ما حدث بعد مئات السنين من طوفان نوح ، فكما يذكر سفر التكوين في الإصحاح /١١/ عن قصة برج بابل أن الناس كانوا يتكلمون لغة واحدة ، فحاولوا بناء برج من طوب اللبن بدل الحجارة رأسه في السماء ، فبناء هذا البرج لم يكن بنية خير ولكن بنية سوء ، فهذا البرج كان بمثابة مكان يهربوا إليه من الطوفان إذا ما حاول الله إهلاكهم بسبب خطاياهم ، وهو أيضا نوع من تحدي لله والشعور بالغرور بأنهم عظماء يستطيعون أن يفعلوا ما تشتهيه أنفسهم . فكان مصيرهم أن الله جعلهم يتكلمون لغات مختلفة لا يفهم بعضهم على بعض وشتتهم في بقاع الأرض " ٩- لذلك دعي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض " .
المعنى الثاني لكلمة بابل هو (باب الله) ، وهذا المعنى معاكس تماما للمعنى الاول وهو ينطبق تماما على ما فعله النبي يوسف في مصر ، فالنبي يوسف أيضا بنى برج (إهرام سوزير المدرج) من حجارة له أربعة جوانب كرمز لتوحيد جميع الجهات الأربعة ليكون بمثابة سلم يوحد معارف شعوب العالم لتسلك طريقا صالحا يرضي الله و يصعد بفكرهم وإيمانهم نحو السماء ليُقربهم منه ، وهذا السلم تم ذكره في الاصحاح ٢٨ من سفر التكوين عندما خرج يعقوب إلى حاران هاربا من أخيه عيسى الذي أراد قتله (١٢ - وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. ١٣ - وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ. الأَرْضُ الَّتِي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ. ١٤ - وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْبًا وَشَرْقًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ) . فهذا الحلم حققه ابنه يوسف ، والهرم الذي بناه كان رمز (باب الله) وهو يُعبر عن توحيد لغات العالم ، والمقصود باللغة هنا المعارف المتنوعة التي وزعها الله على شعوب العالم لتساعدهم في تطورهم الروحي والمادي والتي حاول أهل مدينة بابل استخدامها في تحدي الله . هذه المعارف والعلوم المتنوعة ذكرها الله بشكل رمزي في سفر التكوين والقرآن أيضا ، في الاصحاح /٣٧/ من سفر التكوين ذكرها كرمز وهو (قميص يوسف الملون) فقميص يوسف ذو الألوان العديدة هي بمثابة العلوم المتنوعة التي أنعم الله بها على نبيه يوسف والتي جعلت أخوته يشعرون بالغيرة نحوه . وفي القرآن الكريم أيضا في سورة يوسف تم ذكر رمز آخر في الآية /٦٧/ على لسان يعقوب (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فالمقصود من كل باب في هذه الآية هو نوع معين من المعارف ، فالذي سيصل إلى معرفة يوسف يجب عليه أن يدخل من جميع أبواب العلوم ، . والحكمة الإلهية وضعت هذا المعنى في اسم (يوسف) ، فالقيمة الرقمية في الكابالا اليونانية لأسم (يوسف) هو الرقم (١٥١٨) ، وهو نفس القيمة الرقمية في الكابالا العربية لعبارة (ابن يعقوب) أي يوسف ، فهذا العدد يتألف من قسمين : (١٨) وهو رمز روح الله ، والثاني هو (١٥) حيث الرقم (٥) هو رمز (عين) ، والرقم (١) هو رمز الحاجب ، فمعنى الرمز (١٥١٨) هو عين الله. أما في الكابالا اليونانية فيعني (نورالله) . وقد تكلمنا عن هذه الرموز بشكل مفصل في مقالات ماضية .
يوسف عليه الصلاة والسلام بعلومه المتنوعة استطاع أن يتحول من عبد يخدم سيده الغني إلى وزير يتحكم بجميع أملاك وأمور الدولة ليستخدمها في تأمين مصالح جميع أفراد الشعب . حيث استطاع بعلومه هذه أن ينهض بالبلاد المصرية ليحولها إلى أجمل وأغنى وأقوى دول العالم تستطيع مواجهة المجاعة الشديدة التي حصلت بسبب سنوات العجاف . لهذا كان ما فعله يوسف بالنسبة للشعب المصري بمثابة معجزة خارقة لم ترى الإنسانية مثلها من قبل . فعلوم يوسف المتنوعة هي التي صنعت حضارة عصر الأهرامات والتي آثارها حتى الآن لا يزال يعجز العلم الحديث عن تفسيرها . لهذا بعد وفاة يوسف بقرون عديدة تحولت قصة يوسف إلى اسطورة يتدوالها الناس فيما بينهم ، فظن بعضهم أن يوسف قد هبط من السماء وأن علومه الخارقة جاءت من كائنات سماوية وسموها بعلوم السحر . فحاول بعضهم عن طريق خداع الناس والألعاب الخفية بإقناعهم بأنهم هم أيضا لهم إتصال بهذه الكائنات السماوية وأنهم يملكون مثل هذا العلم ، فبدأ السحر يتطور بالتدريج في مصر مع مرور الزمن ليستخدمه ملوك مصر كسلاح يستطيعون به السيطرة على الشعب في جميع نواحي الحياة ، وعندما وصل هذا العلم إلى ذروته أرسل الله موسى عليه الصلاة والسلام ليواجههم بنفس الأعمال الخارقة التي أنعم الله بها على يوسف ليبين لهم أن علوم يوسف التي وهبها الله له هي علوم حقيقية وليست مزيفة كالتي يستخدمها سحرة مصر.
علوم يوسف كانت على نوعين : النوع الأول وهو الحكمة الإلهية والتي يرافقها المعجزات الخارقة التي وهبها الله لرسله وبعض أنبيائه ، والنوع الثاني وهو علوم الحكمة الإنسانية والتي سميت عند اليهود بالقابالا (كابالا) ، وعند الإغريق (الفلسفة) . النوع الثاني انتقل من مصر بعد وفاة يوسف إلى معظم شعوب العالم .
علوم الحكمة (الكابالا) في مصر جمعها المصريون وسميت فيما بعد بعلوم هرمس ثلاثي القوة . وأيضا انتقلت مع قوم موسى بعد خروجه من مصر من جيل إلى جيل في أشخاص معينين بشكل شفوي فقط غير مكتوب ، وغير مسموح لأحد من العامة تعلمها . هذه العلوم انتقلت إلى النبي سليمان بن داود ، فكما تروي كتب العهد القديم أن بعد وفاة داوود عليهما الصلاة والسلام واستلام ابنه سليمان للعرش ، دعى سليمان لله أن يهبه الحكمة ليستطيع أن يحكم شعبه بما يُرضي الله . فوهبه الله الحكمة وجعله أحكم شعوب الأرض . بينما نجد القرآن الكريم يذكر أن سليمان دعى لله أن يجعله أغنى ملوك الأرض {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (٣٥) ص} معاني هذه الآيتين لا تنطبق نهائيا على وضع حالة النبي سليمان ، فهو استلم عرش أبيه وجميع روايات النصوص الدينية تؤكد أن الملك داوود ترك لأبنه دولة غنية جدا تستطيع القيام بجميع أمور الدولة دون الحاجة إلى ثروات اضافية . لهذا لم يكن لملك سليمان حاجة إلى ثروة ولكن إلى حكمة . فهذه الآية تقصد النبي يوسف فهو الذي كان عبدا لا يملك شيئا بعد اتهام زوجة سيده له بخيانته لسيده .
النبي سليمان بتلك الحكمة التي وهبها الله له شعر بأن علوم الحكمة التي انتقلت مع حكماء قوم موسى كانت ناقصة ، فوجد ما يكملها في حكماء الشعوب المجاورة ، فكما يذكر القرآن الكريم في الآية {... وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٢٤) فاطر} . فحاول سليمان اكتساب هذه المعارف عن طريق عقد علاقة سلام وتعاون مع الشعوب المجاورة . هذه العلاقة أزعجت كثيرا كهنة اليهود ، ورغم تحذيرهم للنبي سليمان ليبتعد عنهم ، ولكنه لم يأبه بهم وتابع اتصاله بهم وتبادل الآراء معهم . لهذا نجد سفر الملوك الاول يذكر أن سليمان بعلاقته مع الشعوب الوثنية قد خرج عن تعاليم الله وأن الله عاقبه على ما فعله . أما سفر أخبار الأيام الثاني فلا يذكر شيئا عن خروج سليمان عن تعاليم الله . والقرآن الكريم يؤكد على صحة السفر الثاني (.... وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ....) . فهذه الآية تؤكد أن علاقة سليمان بحكماء الشعوب المجاورة لم يكن هدفها تعلم السحر وإنما كان هدفها تطوير علوم الحكمة . فالذي حصل بعد وفاة سليمان أن بعض كهنة اليهود الذين سمعوا عن حكمة علوم يوسف التي تناقلتها الأجيال بشكل شفهي ، ظنوا أن تلك العلوم التي كان يملكها يوسف هي علوم سليمان بن داوود. فاختلط الأمر عليهم وظهرت كتب الأبوكريفا (الكتب السرية الغير معترف بها) التي تتكلم عن علاقة السحر بالنبي سليمان . وحتى لا تختفي هذه المعلومات عن النبي يوسف ، الحكمة الإلهية في تصميم القرآن ذكرتها في القرآن بالأسم الرمزي للنبي يوسف (سليمان) .
في المقالة القادمة إن شاء الله سنتابع شرح علاقة النبي يوسف (أمحوتب) عليه الصلاة والسلام بالملكين هاروت .
ز .سانا
ربما تحتوي الصورة على: سماء، نشاطات في أماكن مفتوحة وطبيعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق