الاثنين، 26 أكتوبر 2020

الخاطرة ٢٦٨ : النبي يوسف وعلاقته بهاروت وماروت الجزء ٢


الخاطرة ٢٦٨ : النبي يوسف وعلاقته بهاروت وماروت الجزء ٢

 يقول الله تعالى : ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) البقرة﴾ .

في المقالة الماضية ذكرنا أن أسم (سليمان) المذكور في القرآن الكريم لا يعني بالضرورة المقصود به سليمان ابن داود عليهما الصلاة والسلام ، ولكن قد يُقصد به يوسف ابن يعقوب عليهما الصلاة والسلام ، وأن النبي سليمان هو رمز مصغر عن النبي يوسف الذي أسمه المصري (أمحوتب) والذي أنعم عليه بمقدرات خارقة استطاع بها تحويل بلاد النيل إلى أقوى وأرقى شعوب العالم في فترة وجوده فيها وهو عصر الأهرامات . 

وذكرنا أيضا أن اسم بابل له معنيين : الأول مصدره كلمة (بلبلة) حيث بلبل الله شعب بابل في بلاد ما بين النهرين دجلة والفرات ، والذي ذُكر بمعنى رمزي في الكتب المقدسة كنوع من الغضب الإلهي على سكان هذه المنطقة بسبب بنائهم لبرج بابل كنوع من التحدي لله عز وجل ، فحولهم من شعب واحد إلى فرق عديدة لا تستطيع التعاون مع بعضها البعض . أما المعنى الثاني لكلمة (بابل) فمصدره (باب - إل) ويعني باب الله ، والمقصود بها الهرم المدرج في بلاد نهر النيل حيث استطاع يوسف توحيد مصر السفلى بمصر العليا لتتعاون مع بعضها كشعب واحد ، وكان رمز هذه الوحدة هو برج بابل الجديد ونقصد به هرم زوسر المدرج .الله عز وجل في الآية القرآنية التي نتحدث عنها ذكر لنا الفرق بين شعب بابل (بابل هو رمز للشعب السومري ) وشعب مصر ليساعدنا في فهم حقيقة نوعية المعارف التي ساهمت في تطور التكوين الروحي للإنسانية الذي تارة يقع تحت سيطرة روح السوء بسبب إنحراف الناس عن المخطط الإلهي  ، وتارة أخرى وبمساعدة إلهية يقع تحت سيطرة روح الخير العالمية فتعود الأمور ثانية لتتابع الإنسانية تطورها من جديد في المخطط الإلهي . كل تغيير يحصل في جهة تطور التكوين الروحي للإنسانية سببه هو نوعية المعارف التي يكتسبها الإنسان .الآية الكريمة هنا تستخدم الأسمين (هاروت وماروت) لتوضح لنا نوعية وطبيعة هذه المعارف . فالآية تقول عن هذه المعارف أنها (....فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ...) . وسنحاول هنا توضيح مفهوم هذين النوعين من المعارف . ولكن قبل أن نتابع الموضوع لا بد من شرح قانون إلهي يوضح لنا مبدأ هام في تطور المعارف والعلوم .


 مبدأ هذا القانون الإلهي يعتمد فكرة أن دماغ الإنسان كجهاز منظم لجميع فعاليات الإنسان ، ليس له القدرة على اختراع أو اكتشاف أي فكرة جديدة مفيدة ، فكل فكرة تنتج عن نشاط الدماغ كجهاز عضوي هدفها تشويه المخطط الإلهي . أما الاختراعات والنظريات والأفكار الصحيحة المفيدة لتطور الإنسانية روحيا وماديا فهي موجودة في التكوين الروحي للإنسان قبل أن يولد . فكل فكرة مفيدة جديدة تظهر هي في الحقيقة نتيحة جهود وعمل متواصل لصاحب الفكرة ، فهذا المجهود المبذول هو الذي جعله يمتلك قدرة على تحطيم ذلك الجدار المحيط بالفكرة داخل تكوينه الروحي فجهوده وعمله المتواصل هو الذي سمح لها في الخروج من الظلام إلى النور لتستفيد منها الإنسانية في تطورها الروحي والمادي وفقا للمخطط الإلهي . فالدماغ هنا دوره أن يحول هذه الفكرة من إحساس إلى معنى تستطيع عقول الناس فهم هذه الفكرة  .وربما أفضل مثال بسيط يؤكد صحة هذه الفكرة هي ظهور فكرة بناء الاهرامات في المكسيك المشابهة كثيرا لفكرة بناء الاهرامات في مصر ، رغم وجود المكسيك في القارة الأمريكية المنعزلة تماما عن مصر والعالم القديم . فظهور الشكل الهرمي في عمليات البناء في مصر والمكسيك ومناطق أخرى ، ليس من فكر الإنسان ولكن من تكوينه الروحي لأنه يمثل رمز (٨) من الرمز الإلهي (١٨) الذي تكلمنا عنه وسنتكلم عنه بعد قليل لأنه يمثل رمز برج بابل موضوع حديثنا في هذه المقالة.              

 إذا بحثنا في الكتب المقدسة للعهد القديم والعهد الجديد لن نجد أي ذكر للاسمين (هاروت وماروت) لهذا نجد تفسيرات عديدة مختلفة لهذه الآية حيث اعتمد فيها كل مفسر مصدر مختلف من الكتب المقدسة فظهر بتفسيره الخاص الذي بدلا من أن يساهم في فهم معنى الآية حدث العكس تماما فأبعدها عن مفهومها الحقيقي . فما حصل في تفسير هذه الآية كان شيئا طبيعيا ففهم معنى هذه الآيه كان يحتاج إلى معلومات لم تكن موجودة في عصر الحضارة الإسلامية ولا بعده ، وإنما بدأت تظهر في عصرنا الحاضر بعد تطور العلوم والتكنولوجيا التي ساعدت علماء التاريخ وعلماء الإنسان في الحصول على قطع أثرية تعطينا معلومات هامة تتعلق بسلوك ومعارف الشعوب القديمة . فهذه الآية تشرح لنا بشكل رمزي ما حصل من تطور في الإنسانية بعد طوفان نوح ، لهذا قبل شرح رمز (هاوت وماروت) لا بد لنا من عرض تاريخي سريع للمراحل الزمنية التي مر بها قوم نوح لنحصل على رواية واحدة توافق ما ذُكر في الكتب المقدسة وما تم العثور عليه من معلومات في القطع الأثرية تاريخية التي تم اكتشافها في العصر الحديث . كثير من المعلومات هنا تكلمنا عنه بشيء من التفصيل في المقالة رقم (51-بحيرة حواء) ومقالات سلسلة حقيقة طوفان نوح وغيرها من المقالات . 


 قبل ثمانية آلاف عام كان البحر الأسود بحيرة مغلقة ذات مياه عذبة فكان الأسم الرمزي لهذه البحيرة (حسب رأيي الخاص) هو بحيرة حواء وعلى الجانب الشرقي منها كان يقع جبل البروز (القوقاز) الذي يعتبر أعلى جبل في أوروبا والمناطق المحيطة . على الشواطئ الشرقية والغربية الجنوبية لهذه البحيرة عاش قوم حواء (عائلة نوح) ، وكانوا جميعا يعيشون في حالة سلام وتعاون فيما بينهم يعملون في الزراعة وتربية الحيوانات وصيد الأسماك فكان هذا القوم بمثابة مركز العالم حيث تم في توحيد جميع الصفات الإنسانية الحميدة . ولكن جاءت جماعات همجية من جهة القارة الأوروبية وراحت تقتل وتسلب أراضي وخيرات سكان المنطقة الغربية للبحيرة ، فهرب معظمهم أهاليها إلى  المناطق الشرقية الجنوبية للبحيرة وأخبروهم عن تلك الجماعات الهمجية التي أخذت ديارهم . فدار بينهم نقاش طويل حول ما يجب عليهم أن يفعلوه للتصدي لهذه الجماعات الهمجية ، فكان القرار المناسب الذي وافق معظمهم عليه  هو مبدأ إنسان الجنة {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) المائدة} . فقرروا الهجرة إلى موطن آمن يعيشون به بأمان وسلام . في تلك الفترة حدث زلزال قوي أحدث شق أرضي عميق (اليوم معروف بمضيق البوسفور) جعل مياه البحر المتوسط تتدفق بغزارة نحو بحيرة حواء ، الزلزال أيضا أحدث ثورة بركانية في قمة جبل إلبروس أدى إلى هبوط كميات هائلة من الجليد  المتراكم عليه وسقط في مياه البحيرة مما أحدث طوفان عظيم قضى على جميع الجماعات الهمجية ، فتحولت بحيرة حواء ذات المياه العذبة إلى بحر ذات مياه مالحة . قوم نوح ظنوا أن الطوفان سيستمر ليغمر جميع الأراضي فاتجهوا نحو الجنوب إلى المناطق المرتفعة القريبة من جبل آرارات وحاولوا العيش هناك ، ولكن طبيعة تضاريس المنطقة الجبلية الوعرة وصعوبة السكن فيها دفعتهم للبحث عن مناطق أنسب للسكن ، فاتجهوا نحو الجنوب حتى وصلوا إلى منطقة ذات مياه وافرة وسهول بمساحات كبيرة تصلح للسكن والزراعة ، هذه المنطقة اليوم معروفة بأسم رأس العين في شمال سورية التي تقع على نهر الخابور ، فأصبحت منطقة مابين نهر الخابور والفرات مكان سكنهم . في هذه المنطقة تأسس أول تجمع سكاني كبير جدا سيساهم في تمهيد تكوين أول حضارة (بمعناها الشائع) وسميت بالحضارة الحلفية نسبة إلى أسم تل حلف يُدعى تلف حلف.  حضارة تل حلف تميزت بالفخاريات المزججة والمزينة برسومات هندسية ورسوم حيوانات . 

حادثة طوفان بحيرة حواء وتدمير الجماعات الهمجية التي أرادت الاستيلاء على بلاد قوم عائلة نوح ، كانت حسب فهم حكماء هذا القوم بمثابة انتقام من قوى سماوية ضد تلك الجماعات الهمجية ، فكان الطوفان عبارة عن مكافئة لهم لذلك القرار السليم الذي اتخذوه برفضهم استخدام العنف لحل مشاكلهم . احساسهم أن جبل البروز هو الذي أحدث الطوفان ،  كان في تلك الفترة هي بداية شعور الإنسان ولأول المرة في تاريخ البشرية بوجود قوة سماوية تسيطر على الطبيعة وتساعد الناس الصالحين في حمايتهم وفي تدبير شؤونهم ، وبما أن هذه القوى السماوية هبطت من جبل (البروز) ، أصبح رمز شكل الجبل (٨) عبارة عن رمز روحي لتلك القوى الروحية السماوية . فسبب تسمية المنطقة التي سكنوها والمعروفة اليوم بأسم (رأس العين) ليس صدفة ولكن علامة إلهية ترمز إلى بداية رؤية الإنسان لله أي الشعور بوجوده . أيضا فإن تسمية هذا الشعب بأسم  (حلف) نسبة إلى تل حلف، ليس صدفة فهذه الكلمة اليوم تأخذ عدة معاني وجميعها تشرح الحالة الروحية لهذا الشعب ، فالحِلْفُ يعني المعاهدةُ على التعاضدِ والتَّساعدِ والاتفاق ، والحلف أيضا يعني القَسَم وأهم انواع القسم هو الحلف بالله .

 الشعب الحلفي في منطقة رأس العين ظل شعب نقي لعدة قرون ، استطاع فيها تحسين أوضاع السكن وطرق الزراعة والصيد والتنقل . وكانت معارف هذا الشعب ذات مستوى عالي جدا بالمقارنة مع مستوى معارف الجماعات البشرية المجاورة لهم حتى أنه جعلهم يظنون بأن الشعب الحلفي قد هبط من السماء . ولكن مع مرور الزمن وبسبب سوء الأحوال المعيشية في الجماعات المجاورة ، فضلت هذه الجماعات العمل لدى الشعب الحلفي كعبيد لهم . هؤلاء العبيد مع مرور الزمن استطاعوا أن يأخذوا مكانة عالية في المجتمع الحلفي .فحدث نوع من التشويه في التكوين الروحي لهذا الشعب مما ادى إلى تغيير كبير في طبيعته ، والذي أدى إلى تدهور ظروف المنطقة مما دفعهم للهجرة نحو الجنوب وهناك  ظهروا بأسم جديد وهو (سومر) أي (الرأس الأسود) . أطلق علماء الآثار على هذا الشعب في البداية أسم (العبيديون) نسبة إلى اسم التل الذي أكتشفت آثارهم بقربه وهو (تل عبيد) ، حيث قاموا ببناء عدة مدن في منطقة ما بين النهرين (فرات ودجلة) ومنها مدينة أور التي ولد فيها ابراهيم ولوط عليهما الصلاة والسلام . الشعب السومري وبسبب التشويه الذي حصل في تراث الشعب الحلفي كان يؤمن بأن أصلهم من الشعب الحلفي الذي كان بالنسبة لهم عبارة عن أسياد هبطوا من السماء . لهذا حاولوا أن يستخدموا أحداث تاريخ الشعب الحلفي وينسبوها إلى تراثهم الشعبي ، منها مثلا حادثة طوفان بحيرة حواء والتي تحولت إلى اسطورة كنوع من غضب الأسياد في تدمير أعدائهم . فحدث تشويه لفكرة وجود قوى سماوية تغضب وتدمر الناس السيئين وتساعد الناس الصالحين ، وتحول مفهوم هذه القوى السماوية إلى آلهة بشرية . وحتى يستطيعوا أن يرفعوا مكانتهم إلى مستوى تلك الأسياد قاموا ببناء أبراج بطوب من الطين لتكون مسكنا لهم يجعلهم أسياد في نظر أفراد شعبهم ، كنوع من التحدي لتلك القوى السماوية . بسبب سلوكهم هذا دمرهم الله وبلبل أمرهم وحولهم إلى فئات عديدة متعادية فيما بينهم . حيث كل فئة لها زعيمها يعمل لمصلحته الخاصة فقط . 

علماء التاريخ يؤكدون أن اختراع الكتابة لأول مرة ظهر في الشعب السومري ، وهذا غير صحيح ، ففكرة التعبير عن الفكرة  باستخدام الكتابة ظهرت كفكرة بدائية في الشعب الحلفي الذي استخدم بالفطرة شكل جبل البروز (٨) كرمز يكون بمثابة رمز روحي يُعبر عن تلك الروح الإلهية التي منها انبثق كل شيء كون من ذوبان ثلوجه كانت تنشأ البحيرات والأنهار . فكان هذا الرمز هو بداية الشعور بالرمز الإلهي (١٨) . ولكن الشعب السومري شوه هذا الرمز وحوله إلى ما هو معروف اليوم بالكتابة المسمارية ، ففكرة الكتابة المسمارية هي في الحقيقة عبارة عن عملية تحطيم الرمز (٨ا) إلى قطع منفصلة (١١١) حيث  تعتمد على استخدام شكل واحد وهو (١) كخط مستقيم له بُعد معين يوضع بعدة اتجاهات مختلف بجانب بعضها البعض لتكوين كلمة معينة ، ولكن لضرورة السرعة في الكتابة تم استخدام شكل القلم نفسه كأداة لطباعة أحرف الكلمة بدل رسمها ، فتحول الخط المستقيم إلى خط يشبه المسمار حيث أحد أطرافه ينتهي بمثلث صغير  (كما هو واضح في الصورة) لهذا سُميت بالكتابة المسماريه ، فهذا النوع من الكتابة يعتمد على مبدأ مشابه لمبدأ كتابة الأرقام العربية والرومانية حيث يعتمد معاني مجردة مما جعله فقيرا روحيا ولهذا النسخ القرآنية تم كتابتها بالأرقام الهندية لأنها تعتمد على نفس مبدأ الكتابة الهيروغليفية التي تستخدم رموز أشكال روحية .

المشكلة اليوم أن بعض علماء التاريخ وبسبب استخدامهم الرؤية المادية فقط وليس الرؤية الشاملة ، يصرون على أن السومريون لهم الفضل الأول في اختراع الكتابة ، وهذا غير صحيح ، فتاريخ الشعب السومري مدته ثلاثة آلاف عام وتلك الكتابة المسمارية المتقدمة التي يتكلم عنها هؤلاء العلماء (ألواح ملحمة جلجامش مثلا) فقد تم كتابتها  بعد ولادة ابراهيم ويوسف عليهما الصلاة والسلام بعدة قرون. فالنبي ابراهيم الذي ولد في مدينة أور السومرية كان يستخدم نوع آخر من الكتابة أخذه من الشعب الحلفي ونقله إلى مصر وعندما أتى النبي يوسف إلى مصر طور هذه الكتابة وأخذت أسمها المعروف اليوم (الهيروغليفية) وتعني في اللغة اليونانية النقوش المقدسة . وسنشرح هذا الموضوع فيما بعد . ولكن حتى نستطيع فهم الفرق الروحي بين الكتابة المسمارية والكتابة الهيروغليفية المصرية ، أن الكتابة المسمارية كنشاط روحي نتجت من الرمز (٨١) الموجود في كف يد الإنسان اليسرى أي كانت بمثابة رؤية مادية لما يجري حول الإنسان ، أي فكر الإنسان هو الذي يحدد عدد وطريق تشكيل أحرف الكلمة . أما الكتابة الهيروغليفية المصرية فنتجت عن الرمز (١٨) الموجود في كف اليد اليمنى ، فكانت بمثابة رؤية روحية لما يجري حول الإنسان .  فكانت الطبيعة بما فيها من ظواهر طبيعية وكائنات حية مصدر إلهام فكر الإنسان بالنسبة له ، فشكل الدائرة مثلا كانت تعني الشمس وكذلك تعني النور والنهار ، وشكل العين يعني ينظر أو يتعلم أو مستيقظ . فكما ذكرنا في مقالات ماضية أن الرمز (١٨) هو رمز هابيل ، أما الرمز (٨١) فهو رمز قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، ولهذا نجد في اسطورة الملك جلجامش أنه كان ملكا ظالما مستبدا لا يترك امرأة تزف الي زوجها حتي يدخل عليها أولا. فسلوكه كان معاكسا تماما لقوم بحيرة حواء الذين آمنوا بعقيدة السلام والعفة والعدل والتعاون والتي تحمل في داخلها التكوين الروحي لهابيل . ابراهيم ويوسف عليهما الصلاة والسلام كتكوين روحي كانا من هذه السلالة ، وعن طريقهما تم نقل مبدأ الكتابة الهيروغليفية من بلاد ما بين النهرين إلى مصر ، وهو نفس المبدأ الذي ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣١) البقرة} .

 ابراهيم عليه الصلاة والسلام عندما رأى ما يحصل من عشوائية في السلوك الروحي للشعب السومري ، أخذ معه ابن اخيه لوط وأفراد جماعته وهاجر باتجاه الشرق يبحث عن مكان مناسب يسكن به هو وجماعته ليحافظ على المبادئ السامية التي توارثها عن الحلفيين ، ولكن الظروف القاسية التي واجهها بسبب ظروف الجفاف التي حصلت في تلك المناطق دفعته في الذهاب إلى بلاد النيل في منطقة دلتا ، المشابهة لمناطق بلاد ما بين النهريين، حوالي عام ٣٢٠٠ قبل الميلاد، وهناك حاول أن يستخدم معارف شعبه لتحسين المنطقة فبنى هناك أول مصطبة من الحجارة ، وقام بزراعة الأراضي ، ولكن زعيم تلك المنطقة أراد أن يأخذ زوجته ليجعلها عشيقته ، فعاقبه الله وساعد ابراهيم وقومه في الخروج من مصر .    

معارف ابراهيم انتقلت إلى ابنائه وأحفاده ووصلت إلى يوسف عليه الصلاة والسلام . وكانت الخطة الإلهية أن ينتقل النبي يوسف إلى مصر ليُنشئ هناك حضارة تكون رمزا لولادة الإنسانية لتبدأ مرحلة روحية جديدة . فمصر كانت بوابة القارة الأفريقية نحو بقية قارات العالم القديم. وكما ذكرنا في مقالات ماضية أن القارة الأفريقية كانت رمز لبلاد الشيطان فشكل القارة الأفريقية مشابه لشكل رأس إنسان له قرن تماما كما يتم تصويره في معتقدات أتباع الديانات . فكان دور يوسف هو تكوين دولة قوية تمنع خروج أي معارف شيطانية من هذه القارة نحو القارة الآسيوية التي جعلها الله كرمز القسم الروحي للإنسانية .

قصة حياة النبي يوسف تعتبر من أكثر  قصص الأنبياء غموضا ، وبسبب شدة غرابة أحداث قصه النبي يوسف نجد أن عصر الإهرامات وبشكل عام الحضارة المصرية وتراثها الشعبي يعتبر من أغرب الحضارات  سواء كان كمجتمع إنساني أو كمعجزات علمية عجز العلم الحديث عن فك أسرارها . والمشكلة هنا أن شرح أحداث حياة النبي يوسف بشكل مفصل سيدخلنا في عالم خيالي حيث إثبات صحة هذه الأحداث يحتاج إلى العديد من الصفحات لشرح رموز عديدة تتعلق بحياة النبي يوسف ، وشرح كل رمز أيضا يحتاج إلى ذكر معلومات عديدة ، وجميع هذه المعلومات متشابكة من جميع العلوم ستجعل القارئ يتوه وربما لا يستطيع أن يستوعب الكثير منها بسبب طبيعة المنهج العلمي الحديث الذي جعل من ثقافة الإنسان المعاصر ثقافة مادية متخصصة بنوع واحد فقط من العلوم .

  هنا سنذكر فقط مثال بسيط يوضح لنا غرابة أحداث حياة يوسف ، إذا ذهبنا إلى الكتب والانترنت التي تتحدث عن أمحوتب (النبي يوسف) في مصر ، سنجد بعضها تذكر تاريخ ظهوره هو بداية الألف الثالثة عام ٢٩٠٠ ، أو ٢٨٠٠ قبل الميلاد . وعندما ننظر إلى فترة بناء الهرم المدرج الذي بناه نجد أنه تم بنائه حوالي عام ٢٦٥٠ قبل الميلاد . في  نفس المقالة التي تتكلم عن أمحوتب نجد هناك فرق زمني يعادل أكثر من ٢٥٠ عام . وكأن امحوتب قد عاش لفترة تتجاوز ال ٣٠٠ عام . ورغم عبقريته التي لم تعرف الإنسانية مثلها نجده يختفي بشكل مفاجئ ولا يترك أي أثر على وجوده سوى أعماله . والغريب في الأمر أن بعد فترة من اختفائه تصبح عملية تحنيط الأموات من أقوى العقائد المصرية . فهذه الحقائق جميعها لم تحدث بالصدفة ، ولكنها حكمة إلهية تعطينا لمحة عن حياة يوسف (أمحوتب) ، فيوسف ولد عام ٣٠٢٥ قبل الميلاد ، وتوفي بعمر أربعين لحظة بداية سقوط الأمطار وانتهاء سنوات العجاف ، ثم بعد ٣٠٠ عام عادت روحه إلى جسده ثانية وعاش بعدها ٥٠ عام . لهذا أسم (هاروت) المذكور في الآية القرآنية التي نتحدث عنها ، هو أسم أرمني ويعني في اللغة الأرمنية (القيامة بعد الموت) الذي سنشرحه فيما بعد .

 قصة أصحاب الكهف التي تم ذكرها في سورة الكهف التي رقم ترتيبها (١٨) هي رمز لقصة يوسف ، فالكهف هنا هو رمز جوف الهرم الذي وضع به جسد يوسف بعد وفاته الأولى . قصة  أصحاب الكهف لا علاقة لها بقصة أولئك المسيحيين الذي يتكلمون عنهم العلماء المسلمين الذين لجؤوا إلى الكهف خوفا من الاضطهاد  ، فقصة هؤلاء هي قصة ادبية غير واقعية في التراث المسيحي ، والمسيحيون هم أنفسهم لا يؤمنون بصحتها كقصة واقعية تاريخية ولهذا كثير منهم لم يسمعوا بها . والله عز وجل ذكرها في سورة الكهف لتكون كدليل على حادثة رمزية من حياة يوسف . فقيام النبي يوسف من الموت هو الذي جعل المصريين بعد قرون عديدة أن يؤمنوا تماما بعقيدة عودة الروح إلى الجسد بعد الموت ولهذا أعطوا أهمية كبيرة في عملية التحنيط وتطويرها . فلولا حادثة قيام يوسف من الموت لما وجدت عقيدة التحنيط في مصر ولما استمر المصريون في الإيمان بها لثلاثة آلاف عام . القرآن الكريم يعطينا دليل على صحة هذه الحادثة في الآية/٣٤/ من سورة غافر (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ) . فقصة يوسف في القرآن الكريم والكتب المقدسة لا تذكر حادثة تبرر ذكر كلمة (هلاك) يوسف . ولكن الحكمة الإلهية وضعت هذه الآية في سورة غافر كحادثة تاريخية من حياة يوسف وأن وفاة يوسف الأولى كانت نتيجة هلاكه ، وهلاكه حدث بسبب الجوع لأنه عندما رأى أن المؤنة التي قام بتخزينها لن تكفي لإطعام الجميع ، منع نفسه عن الطعام عدة أيام حتى ينقذ الجميع ولا يموت أي شخص آخر من الجوع ليعلم الناس معنى المسؤولية والتضحية من أجل الآخرين ، وهذا ما حصل فعندما لفظ روحه ، بدأ المطر يتساقط ليعلن انتهاء سنوات العجاف ، وكان ذلك في سنه الـ/٤٠/ وهو رقم ترتيب سورة غافر . فحياة يوسف الأولى كانت ذات طبيعة بشرية ، ولكن بعد قيامه من الموت أعطاه الله مقدرة خارقة تصنع المعجزات والتي نجد آثارها اليوم في غرائب عصر الاهرامات والتي بسببها ظهر السحر بمفهومه الشائع . فقيام يوسف من الموت هو الذي أقنع المصريين بوجود يوم الحساب بعد الموت . فكانت تلك المرة الأولى في تاريخ البشرية تظهر عقيدة الإيمان بيوم الحساب .  وهذا هو الفرق بين معتقدات الشعب المصري ومعتقدات الشعب السومري ، حيث السومريون كانوا لا يؤمنون بيوم الحساب . لهذا نجد أن موضوع اسطورة جلجامش كان بحثه عن طريقة ينتصر فيها على الموت ولكنه لم يصل إليها ، أما النبي يوسف فقد انتصر على الموت حيث توفي وعاد من جديد إلى الحياة .

      في المقالة القادمة إن شاء الله سنذكر أدلة أخرى توضح لنا دور يوسف عليه الصلاة والسلام في تطوير المعارف كذلك علاقته بالأسمين هاروت وماروت .

ز.سانا






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق