مقالة طارئة : الحقيقة الروحية لحقبة حكم نظام آل الوحش (الأسد المزيف).
عشرات آلاف الصفحات ، آلاف البرامج التلفزيونية ، وآلاف مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، من مختلف المتخصصين ، سياسة ، إقتصاد ، حقوق الإنسان، دين ... تكلمت عن نظام حكم عائلة الوحش (الأسد المزيف) . تناقضات وإختلافات غريبة عجيبة في الآراء نحو توضيح حقيقة هذا النظام ، وللأسف معظمها وعلى مدار أكثر من /٥٤/ عام كانت مجرد آراء سطحية تتعلق بمنطقة صغيرة من العالم وفي فترة زمنية قصيرة لا توضح حقيقة المضمون الروحي لهذا النظام ودوره التاريخي في محاولة عرقلة المخطط الإلهي في التطور الروحي للإنسانية .
في مقالة اليوم سأذكر لكم الأحداث بطريقة مختلفة تماما . سأتكلم عن مضمون الأحداث وليس ظاهرها كما تعود طرحها من قِبل أولئك المتخصصين المؤيدين أو المعارضين منذ إستلام عائلة الوحش الحكم (١٩٧٠/١١/١٦) وحتى سقوطه بشكل رسمي في اليوم المبارك (الأحد ٢٠٢٤/١٢/٨) . سأحاول إستخدام إسلوب روائي مع ذكر أحداث رمزية ومن دون تفسير لها ، وفي المقالة القادمة إن شاء الله سأحاول شرح هذه الرموز الإلهية التي توضح حقيقة هذا النظام ودوره في محاولة عرقلة المخطط الإلهي والمعنى الروحي لسقوطه كرمز لبداية سقوط النظام العالمي (آل الوحش العالمي) والذي بدأ ظهوره منذ حوالي قرنين من الزمن والذي كان هدفه منع دخول الإنسانية في مرحلة سن الرشد الروحي ، والتي كانت علامة بداية سقوطه قبل أيام قليلة من عام (٢٠٢٥) كرمز لبداية مرحلة جديدة يسودها نظام عالمي جديد -وليس شرق أوسط جديد- مختلف نهائيا عن جميع الأنظمة السابقة في تاريخ البشرية منذ ولادتها .
ما حصل يوم (٢٠٢٤/١٢/٨) لم يكن بتخطيط إنساني ولكن بتدخل إلهي ، ولا يوجد فضل لأي شخص أو أي فصيل عسكري ، أو أي دولة في سقوط نظام آل الوحش في سوريا ، الله عز وجل هو الذي هيئ جميع الأسباب وسخر الطبيعة نفسها لهذا الحدث العظيم ، فالإنهيار السريع لجيش نظام آل الوحش الذي أطاح بالمخطط الدولي المرسوم للمنطقة ، وبالشكل الذي أبهر جميع حكام الدول وجميع شعوب العالم ، دفع البعض على إعتباره بمثابة معجزة إلهية . هذه المعجزة الإلهية يمكن تفسيرها بعبارة واحدة (هيئة تحرير الشام) وأنا لا أقصد هنا هيئة فصائل تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (الجولاني) ، ولكن ما أعنيه هو الرمز الروحي لأسم هذه الهيئة (تحرير الشام) ، فلو كان لهذه الفصائل العسكرية إسما آخر لما إستطاعت هذه الفصائل إسقاط النظام ولو حاولت لعشرات السنين . فكلمة (الشام) المقصود بها بلاد الشام التي تعتبر مجمع الحضارات العالمية ، فبلاد الشام روحيا تختلف عن جميع بلدان العالم فهي تُعتبر المركز الروحي للعالم بأكمله . هذا الموضوع سنشرحه بالتفصيل في المقالة القادمة إن شاء الله. (في المقالة سأذكر اسم الوحش وليس الأسد ، لأن الأسد من الحيوانات الطاهرة ، و اسم الوحش هو الأسم الحقيقي لهذه العائلة النجسة) .
حتى نفهم بشكل واضح حقيقة مضمون نظام آل الوحش ودوره في محاولة تنجيس بلاد الشام ، سأسرد لكم الأحداث منذ بداية صعود هذه العائلة (عائلة الوحش) إلى الحكم بشكل يوضح تطور إسلوبها الخبيث في السيطرة على البلاد بهدف تدمير بيئتها الروحية لمنعها من تكوين دولة حضارية تكون بمثابة قدوة حقيقية لجميع بلدان العالم .
صباح يوم الإثنين المصادف (١٩٧٠/١١/١٦) كان بالنسبة لي صباحا إعتياديا مثله مثل بقية الأيام ، ولكن في الحصة الثالثة في المدرسة الإبتدائية الآباء المختارين ، وبينما كان معلم الصف السادس (محمد سالم) يكتب على السبورة بعض الجمل ، فجأة وبدون أي طرقات على الباب دخل رجل غريب إلى الصف ، طريقة دخوله جعلت المعلم يلتفت نحوه باستغراب وإنزعاج ، ولكن الرجل وبدون إستئذان إتجه إليه مباشرة وهمس له ببضع كلمات ثم إلتفت إلينا قائلا إذهبوا إلى بيوتكم إنتهى الدوام اليوم . ربما أجمل لحظة في اليوم المدرسي لجميع التلاميذ وخاصة الصغار هو لحظة سماع رنين جرس المدرسة الأخير الذي يعلن عن نهاية الدوام ، ولكن في ذلك اليوم ولأول مرة فرحة أطفال الصف لم ترتسم على وجههم ، فأسلوب هذا الرجل الغريب أقلق جميع التلاميذ ، فجميعهم شعروا بقلة أدب هذا الرجل في طريقة تعامله مع معلم الصف الذي يَكُّنُ له جميع التلاميذ كل المحبة والإحترام . في تلك اللحظات لم نعلم أن في ذلك اليوم قد حدث إنقلاب عسكري على الحكومة ، ولكن كإحساس فطري طفولي شعرته أنا وربما الكثير من زملائي التلاميذ من أن الأمور ليست على ما يرام وذلك من خلال رؤية ملامح معلم الصف الذي وقف ساكنا وهو يشعر وكأنه أصبح فجأة لا أهمية لوجوده في هذا الصف وأن هذا الرجل الغريب هو الذي أصبح الآمر الناهي .
بعد أيام قليلة وقبل غروب الشمس بدقائق قليلة ، وبينما كنت ألعب مع أصدقائي في الحي ، سمعنا صوت طبل وزمر في الشارع الرئيسي للحي ، هرعت أنا وأصدقائي لنرى ما يحدث ، فرأينا فرقة شعبية تعزف و
ترقص وبعض الرجال يصرخون وينادون سكان المنازل المحيطة ويطلبون منهم النزول إلى الشارع والمشاركة في فرحة الإنقلاب وتغيير الحكومة . الكبار إستغربوا الأمر فالإنقلابات العسكرية بعد إستقلال سوريا كانت تحدث كل فترة وفترة ، ولكن لأول مرة يحدث فيها أن السلطة الحاكمة الجديدة تفرض على الشعب المشاركة بفرحتها على تغيير الحكم والتي سميت ب(الحركة التصحيحية) ولكن الحقيقة كان يجب تسميتها (الحركة التخريبية) .
بعد عدة أسابيع وقبل إنتهاء الفصل الأول من العام الدراسي ، أستلمنا الكراسة المدرسية لنعلم نتائج الإمتحانات ، ورأيت نفسي بدلا من أن أنظر بلهفة لأرى نتيجة الإمتحان في كل مادة كما يحصل في العادة ، توقف بصري على صورة موضوعة في الزاوية العليا للكراسة ، كانت صورة الرئيس حافظ الوحش . هذه كانت أول مرة يحصل فيها أن رئيس الدولة يفرض على دور التعليم وضع صورته على الكراسة المدرسية . ورغم أن عقلي كطفل لم يفهم شيئا عن سبب وضع صورة الرئيس على الكراسة ، ولكن إحساس غريب شعرت به روحي وربما سبب هذا الإحساس كان مرتبط بذلك المشهد الذي علق في ذاكرتي ، مشهد ذلك الرجل الغريب وطريقة دخوله الوقحة إلى الصف ، ففي تلك اللحظات وأنا أرى صورة الرئيس شعرت وكأن الرئيس هو أيضا يدخل المدارس بنفس طريقة ذلك الرجل الوقح . منذ ذلك اليوم بدأت تظهر صور الرئيس بشكل تدريجي في كل مكان ، شوارع ، مدارس ، مستشفيات ، أبنية حكومية .
الأطفال لهم عالم خاص بهم ، وتكوينهم الروحي كما خلقه الله يفرض عليهم العيش بعالمهم هذا . في المجتمع السليم هناك حاجز يفصل بين عالم الصغار وعالم الكبار ، تماما مثل مجتمع الحيوانات العاشبة ومجتمع الحيوانات المفترسة ، وإن أي محاولة دمج بين هذين العالمين ، عالم الصغار وعالم الكبار ، يعني دمار العالم الروحي للصغار وبالتالي دمار العالم بأكمله لأن الأطفال هم المستقبل . القوى العليا في عالم الصغار تتألف من قوتين : الأولى متمثلة برب العائلة (الأب والأم) ، والقوى الثانية متمثلة بالله عز وجل الذي يسيطر على كل شيء . فالطفل عندما يرى عجز أبيه أو أمه في تحقيق رغبة ما له ، يتجه إلى الله ويدعو له بتحقيق هذه الرغبة . الذي حدث مع إستلام حافظ الوحش الحكم ونشر صوره في كل مكان يراه الأطفال وتحت كل صورة عبارة (الأب القائد) ، بدأ يحدث إنقلاب في العقل الباطني للطفل ، وكأن الأمور هدفها إزاحة الإحساس برب العائلة وبالله كقوة عليا في روح الطفل ليحل محلها الرئيس حافظ الوحش ، فعدا تلك الصور المنتشرة في كل مكان بدأت أيضا تنتشر أناشيد بأسم الأب القائد ، وكأنها تقول للعقل الباطني للطفل بما معناه ( أنا ربك الأعلى) . الجيل الذي ولد قبل حافظ الوحش كان عندما يسأله أحد : كيف حالك ؟ كان يجيب إجابة واحدة (الحمدلله) ، أم الجيل الذي ولد بعد حافظ الأسد فإجابته على هذا السؤال تختلف حسب حاله (منيح ... ماشي الحال ... زفت) .
عندما كنت طفلا ، لم أكن أعلم شيئاً عن السياسة فعالم السياسة كان عالما خاصا بعالم الكبار ، فلم أكن أعرف من هو الرئيس ولا من هو الوزير ، وهكذا كان أصدقائي وهكذا أيضا كان جميع الأطفال في سوريا . والدليل على ذلك أنه بعد إستلام حافظ الوحش الحكم ولسنوات عديدة لم أكن أعلم لا أنا ولا أصدقائي من هو الرئيس الذي كان يحكم سوريا قبل إستلام حافظ الوحش الحكم ، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم معظم السوريين لا يعلمون ما اسم ذلك الرئيس الذي حكم سوريا ، لأن حافظ الوحش حاول التعتيم على جميع الرؤساء من قبله وحذفهم من تاريخ سوريا لكي لا يعلم أحد أن جميع رؤساء سوريا السابقين كانوا أفضل منه بكثير .
في المرحلة الدراسية الإعدادية بدأ الترويج بين طلاب المدرسة بضرورة الإنتساب إلى حزب البعث الإشتراكي لضمان مستقبل أفضل ، فكان إجتماع الطلاب الحزبيين يتم عقده بعد إنتهاء الدوام المدرسي اليومي . وفي إحدى الأيام ومع سماع الجرس الأخير بدأت بجمع كتبي لمغادرة المدرسة ، فرأيت زميلي والذي كان بالنسبة لي من أعز اصدقائي لا يزال جالسا في مكانه ، فأستغربت ذلك ، فعادة كنا نخرج معا للعودة إلى منازلنا فبيته كان على مقربة من بيتي . وعندما سألته عن السبب أخبرني بأن أسمه قد تم تسجيله في قائمة الطلاب المنتسبين للحزب ، وأنه يجب عليه أن يحضر الإجتماع . في البداية لم أفهم ما السبب الذي أجبره للإنتساب إلى الحزب ، ولكن بعد أيام علمت أنه من الطائفة العلوية ، وأن الإنتساب إلى الحزب هو إختياري لبقية الطلاب ولكن بالنسبة للطلاب العلويين فهو إجباري . في ذلك اليوم فقط علمت أن زميلي هذا هو مسلم علوي . قبل حافظ الوحش لم يكن هناك سني وعلوي وشيعي ، كنا كأطفال نلعب معا بدون أن نشعر بأي شيء يميز بعضنا عن بعض ، ولكن ومع مرور الأيام بدأ يظهر بشكل واضح تمام من هو سني ومن هو علوي . الشعب السوري الذي كان شعبا واحد بدأ يتم تقسيمه إلى طوائف وأقليات .
لا أزال حتى اليوم اتذكر جيدا ملامح وجه صديقي العلوي في كل نهاية الدوام اليومي المدرسي عندما كان يراني وأنا أجمع كتبي لمغادرة المدرسة كيف كان ينظر إلي ويتمنى لو أنه هو أيضا يستطيع أن يجمع كتبه لنغادر المدرسة ونركض ونلعب حتى وصولنا إلى البيت . أنا تابعت حياتي كفتى مراهق يعيش عالمه الطبيعي كما أراده الله ، بينما حياة صديقي بدأت تتغير وملامح الطفولة في وجهه بدأت تتلاشى لتتحول شيئا فشيء إلى ملامح جندي عسكري تابع لحافظ الوحش .
في البداية ظننت نفسي أنني أحسن حظا من صديقي العلوي ، وأنني سأبقى بعيدا عن ذلك العالم ذو المنطق العسكري الذي فرضه حافظ الوحش على العلويين . ولكن تفاجأت في بداية المرحلة الدراسية الثانوية بصدور قرار يفرض اللباس العسكري على جميع الطلاب الإعدادية والثانوية ، ورأيت نفسي مرغما على إرتداء هذه البدلة العسكرية ، أنا لا أعارض اللباس الموحد لجميع الطلاب ، ولكن ما أزعجني في تلك الفترة هو إختيار اللباس العسكري ، وما أزعجني أكثر هو فرض اللباس العسكري أيضا على الإناث ، فحينها شعرت وكأن نظام حافظ الوحش يريد تشويه التكوين الطبيعي للمجتمع . في المجتمع السليم إن حق الدفاع عن الوطن في القتال والحرب هو واجب على الرجال فقط ، أما عمل المرأة في الحروب فهو المشاركة في الجهاز الطبي لمعالجة المصابين والجرحى . فهذا التحويل في تغيير التكوين الأنثوي الذي فرضه نظام حافظ الوحش شعرت بأنه يريد تحويل المجتمع المدني بأكمله إلى مجتمع عسكري ، حيث المجتمع العسكري يرفض حرية الرأي فهو يعتمد مبدأ تنفيذ الأوامر بدون أي إعتراض تماما مثل تلك الأنظمة الشيوعية في الإتحاد السوفيتي والصين والتي إعتمدت مبدأ (الله غير موجود) ليحل النظام الحاكم مكان الله ، وهذا ما بدأ يحصل تماما في سوريا في ظل نظام حافظ الوحش ولكن بطريقة تدريجية ، فلا يجوز الإعتراض على أي قرار يصدره الرئيس ، وكأن الرئيس إله لا يُخطئ ويعلم كل شيء .
مع مرور السنوات بدأت تتوضح لي حقيقة هذا النظام ونواياه الخبيثة أكثر فأكثر ، ففي العطل الصيفية كنت أعمل بمعمل يقوم بتصنيع النوافذ والأبواب ، وكان المعمل يُصَّدر منتجاته إلى عدة مدن سورية ، وكان شريك صاحب المعمل من بيت (الشهابي) وكونه من أقرباء حكمت الشهابي رئيس هيئة أركان الجيش السوري آنذاك ، كانت منتجات المصنع التي تخص المدن الأخرى بدلا من أن يتم شحنها بشاحنات القطاع الخاص كانت تُشحن بشاحنات الجيش السوري لتخفيض كلفة الإنتاج وزيادة أرباح أصحاب المصنع . كان عمال المصنع يتهامسون فيما بينهم عن عمليات الإحتيال هذه التي تحصل في هذا النظام ، فآليات الجيش السوري وجنوده لم يعد عملهم الدفاع عن سوريا من العدو الإسرائيلي ولكنهم أصبحوا في خدمة المصالح الشخصية للمسؤولين في نظام حافظ الوحش . ٣٠% من راتب المواطن السوري كانت تذهب كضريبة أمن حربي ، ٢٠% منها تذهب إلى جيوب نظام الوحش ، و ١٠% تذهب لشراء الأسلحة التي ستستخدم ضد الشعب السوري لحماية النظام .
في تلك الفترة كانت أختي طالبة في كلية الرياضيات وكانت بجانب دراستها تقوم بتدريس مادة الرياضيات في إحدى المدارس الإعدادية للبنات . وأثناء فترة الإمتحانات وبينما كانت تعمل مسؤولة عن مراقبة الطالبات أثناء الإمتحان ، رأت أختي طالبة تُخرج من جيبها قصاصة ورقة لتنقل حل السؤال منه ، فاستغربت أختي من جرأة هذه الطالبة ، فذهبت إليها وأخذت منها ورقة الإمتحان وقصاصة الورقة ، وطلبت منها مغادرة الصف ، ولكن الطالبة ظلت جالسة مكانها وراحت تنظر إلى اختي بنظرة تهديد وقالت لها (هل تعلمين من أنا ؟) ، أختي لم تصدق شدة وقاحة هذه الطالبة ، وشاءت الأقدار أن تكون اختي أطول بكثير من تلك الفتاة ، فذهبت إليها وبعصبية امسكتها من ذراعها بقوة وجرتها إلى الباب وفتحته ورمتها خارج الفصل قائلة لها (لا يهمني من أنتِ ، أنتِ بالنسبة لي طالبة غشاشة) وأغلقت خلفها الباب بقوة . لو أن هذه الحادثة حصلت بعد عامين أو ثلاثة من ذلك اليوم لتم زج اختي وجميع أفراد العائلة في غياب السجون .
روج بعض الجهلة وخاصة المتعصبين من طائفة السنة ، على أن نظام حافظ الوحش إعتمد على الطائفة العلوية في بسط سلطته على الشعب السوري . هذا الرأي فيه نوع من الظلم بحق هذه الطائفة ، فالضغوطات والتهديدات التي مارسها حافظ الوحش على الطائفة العلوية بدأت منذ إستلامه للحكم ، فكان عقاب المعارض العلوي أقسى بكثير من عقاب المعارض من بقية الطوائف ، ولهذا كانت الطائفة العلوية أولى الطوائف التي إستسلمت لأمر الواقع . الحقيقة أن نظام آل الوحش جمع حوله حثالة كل طائفة وحثالة كل أقلية وحثالة كل مهنة من محاميين وفنانين وأطباء ومهندسين وغيرها من بقية المهن في هذا البلد ، وأعطى هذه الحثالات المناصب العليا ليضمن لنفسه السيطرة على جميع الطوائف والأقليات والنقابات ، فأفراد نظام آل الوحش في الحقيقة لم يكونوا فقط من أفراد عائلة الوحش ولكن من حثالة جميع مكونات الشعب السوري ، فمن هذه الحثالات تشكلت قوة وحشية بقيادة عائلة آل الوحش تحكم سوريا بالحديد والنار . فالصراع في حقبة آل الوحش كان بين طائفتين طائفة عديمة الضمير وطائفة أصحاب الضمير .
ديكتاتورية وفساد نظام حافظ الوحش والذي إعتمدت على حثالات الشعب لضمان بقائها في السلطة بدأت تشعر بها جميع مكونات الشعب السوري . هناك حكمة تقول (ما تزرعه اليوم ستحصده غدا) ، وما زرعه نظام حافظ الوحش راحت تظهر نتائجه ، فهذا النظام العسكري الديكتاتوري الذي طبقه على المجتمع السوري أدى إلى ظهور فرق إسلامية عسكرية سرية تتبع لحزب الأخوان المسلمين ، حيث بدأت هذه المجموعات بالقيام بعمليات إغتيال رجال السلطة والمناصب . فكان أسلوب النظام لمواجهة هذه المجموعات الإرهابية المسلحة إرهابيا ووحشيا أكثر منها بكثير . الشعب السوري بشكل عام هو شعب مسالم وراقي ورث في تكوينه الروحي جميع محاسن الحضارات التي مرت من سوريا ، فروح هذا الشعب كانت تؤمن بوحدة الشعب السوري ولهذا كانت الحكومات السابقة تتألف من جميع مكونات الشعب ، ولكن عندما صعد حافظ الوحش إلى السلطة رغم أنه محسوب على الطائفة العلوية ومع ذلك لم يعترض الشعب عليه بل أعطاه فرصة ليثبت أنه سوري وطني يريد خدمة بلاده . ولهذا معظم الشعب السوري رفض تأييد جماعات الأخوان المسلمين وأسلوبها الإرهابي ، كونهم مجموعة شاذة لا يُمثلون الشعب السوري . فقد كان أمل الشعب السوري أن يحدث إنقلاب عسكري جديد يطيح بحكم حافظ الوحش لتعود سوريا إلى شكلها الطبيعي . ولكن سلوك الأخوان المسلمين (الجهلة في فهم النصوص الدينية) كان بمثابة الفرصة الذهبية لنظام حافظ الوحش لتقوية نفوذه وفي جميع النواحي . فظهور الأخوان المسلمين على الساحة السورية أعطته المبرر في التحرر من جميع تلك القيود التي كانت تمنعه ظاهريا من الخروج وبشكل كامل عن بنود أهداف حزب البعث والحركة التصحيحية ، فبحجة القضاء على الإرهاب نزع حافظ الوحش قناع الأسد عن وجهه ليظهر وجهه الحقيقي وجه الوحش ليهدد به جميع السوريين . فبدأ بإعتقال كل شخص عسكري أو مدني مشكوك به بأنه غير راض عن سلوك النظام في إدارة الدولة . المسلم يتم إعتقاله بتهمة إنتسابه لأخوان المسلمين ، أما المسيحي فكانت تهمته إنتسابه للحزب الشيوعي. ورغم التناقض الكبير بين فكر الإخوان المسلمين وفكر نظام حافظ الوحش ، ولكن في الحقيقة كان الإثنان ينتميان لفكر واحد وهو فكر (آل الوحش العالمي) الذي هدفه تدمير جميع ثمار الحضارات السابقة التي ظهرت عبر تاريخ البشرية الطويل والتي كان هدفها توحيد مكونات الشعب ليعملوا كيد واحدة في بناء دولة حضارية راقية .
عام ١٩٧٩ والذي يقابله في التقويم الهجري عام (١٤٠٠) كان عاما يحمل رمزا إلهيا ولكن لم ينتبه إليه أحد ، ففي هذا العام تم إحتلال الحرم المكي بأسم المهدي المزيف (حادثة جهيمان) . في إيران تم إسقاط الشاه ليحل محله الخميني الذي وضع نفسه نائب روحي للمهدي (ولاية الفقيه) ، وفي سوريا إنتفض الأخوان المسلمين الذين يعتبرون أنفسهم خليفة الله على الأرض وأنه يجب عليهم إستلام السلطة لإنشاء دولة الخلافة الإسلامية.(تفسير المعنى الروحي لما حصل عام ١٩٧٩ سنشرحه بشكل مفصل في المقالة القادمة إن شاء الله) .
قبل مرحلة ظهور نشاط الأخوان المسلمين الإرهابي ، كان السوريين يتهامسون فيما بينهم عن عيوب وفساد النظام الحاكم ويؤلفون نكت ساخرة عنه ، ولكن بعد ظهور الأخوان المسلمين وخلع حافظ الوحش قناع الأسد عن وجهه ، إختفت تلك الهمسات وتلك النكت . الحزبيون (المنافقين منهم) شعروا بأنهم قد إكتسبوا قوة تسمح لهم أن يفعلوا كل ماتحلو لهم نفسهم الخبيثة (تم تسميتهم فيما بعد الشبيحة) . في المرحلة الجامعية كنا نعيش هذا الوضع تماما ، فهؤلاء المنافقون بدأؤوا يتصرفون وكأن الجامعة هي ملك أبيهم ، وأنهم يستطيعون أن يطردوا ليس فقط أي طالب من الجامعة ، ولكن أيضا أي أستاذ جامعي لا يعجبهم ، فمجرد كتابة تقرير عنه يكفي لإعتقاله وزجه في السجون أو حتى إغتياله . أستاذ مادة الرياضيات في كلية الزراعة في حلب -مثلا- التي كنت أدرسُ فيها ، ولأنه إنتقد قرار تطوع النساء في الجيش ، إختفى لعدة أيام ، ثم وجد مقتولا مرميا في كومة من زبالة في أحد شوارع مدينة حلب .
أستاذ الكيمياء الحيوية (الدكتور نزار حمضمض) وبسبب إنتقاده لغلاء الأسعار في محاضرته ، تم إعتقاله لعدة أيام ، وعندما عاد إلى التدريس ثانية وقبل دخوله إلى القاعة ، أحد الطلاب الحزبيين وأسمه (حسام الدين خلاصي) كتب على اللوح كنوع من التحذير للأستاذ (لا مكان للرجعية في هذا الوطن) . عندما دخل الدكتور نزار ورأى ما هو مكتوب على اللوح ، علم أنه هو المقصود ، نظر إلى طلاب قائلا (أنا كنت أعمل كأستاذ جامعي في أكبر جامعات بريطانيا ، وشاركت في العديد من الأبحاث والمؤتمرات العلمية العالمية . راتبي كان عشرات أضعاف الراتب الذي أقبضه هنا ، ومع ذلك تركت كل هذه المزايا وأتيت إلى بلدي لأساعد في بنائها) ثم هز برأسه حسرة وأشار إلى كلمة رجعية وتابع حديثه (قبل أن تنطقوا هذه الكلمة تعلموا معناها الحقيقي) . بعد هذه المحاضرة اختفى الدكتور نزار حمضمض مرة أخرى ، سمعنا شائعة تقول أنه استقال وذهب للتدريس في إحدى دول الخليج والله أعلم. الطالب (حسام الدين خلاصي) الذي كان نشاطه في الجامعة نشاطا حزبيا فقط لا علاقة له بأي موضوع علمي ، حصل على شهادة الدكتوراه ، بينما الطلاب الأوائل في الكلية لم يستطيعوا متابعة دراستهم للحصول على شهادات عليا (ماجستير ودكتوراه). لهذا كان من الطبيعي أن تكون سوريا في عهد حكم آل الوحش -الذي إعتمد على حثالة الشعب - من أفشل دول العالم سياسيا وإقتصاديا وعلميا ، فأمثال -حسام الدين خلاصي- أصبحوا هم من يديرون مؤسسات هذه البلاد .
في أحد الأيام من تلك الفترة ذهب أخي الأصغر مني - كان عمره آنذاك ١٧ عام - إلى المسجد لصلاة المغرب كعادته ولكنه لم يعد . جميع أفراد العائلة شعروا بقلق شديد جدا فكل خوفنا كان أن يكون شيخ المسجد قد أقنعه بالإنضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين ، فنوعية إيمان العائلة كان مناقضا تماما لنوعية إيمان الأخوان المسلمين . جميعنا شعرنا وكأن كابوس فظيع يريد تحطيم ذلك الهدوء الروحي الذي عشناه طوال حياتنا . ولأول مرة رأيت أبي وهو يشعر وكأنه أضعف أب في العالم ، لا حيلة له ولا قوة ، تائه لا يعلم ماذا يفعل كواجبه الأبوي . فمن جهة وبسبب عدم معرفته ما يحصل ، كان يخشى أن يذهب ويسأل عن إبنه في الدوائر الحكومية فيظن الخبيثون فيها أن أخي من الأخوان المسلمين فيأتون ويأخذون بقية أفراد العائلة إلى التحقيق ، وجميع السوريون كانوا يعلمون أن من يؤخذ إلى التحقيق معظمهم لا يعودون ويختفون من الوجود . ومن جهة أخرى كان أبي وهو يرى أمي تبكي معتقدة أنه ربما ابنها معتقلا في السجون تحت التعذيب ، كان فقط ينظر إليها ولا يدري ماذا يفعل فجميع الظروف كانت تمنعه غصبا عنه من القيام بأي حركة حفاظا على سلامة بقية أفراد العائلة . الظروف التي فرضها نظام حافظ الوحش، أوصلت جميع أفراد عائلتي أن يعيشوا في وضع نفسي صعب للغاية فعدا حزننا الشديد على أخي الذي لا نعلم عنه شيئا ، كان أيضا قلقنا الشديد على أمر آخر وهو أن يكون رجال المخابرات قد إعتقلوا أخي فهذا يعني إعتقال جميع أفراد العائلة بحجة التحقيق معهم .
أخي الكبير لم يستطع تحمل هذا الكابوس الفظيع الذي نعيشه ، فذهب إلى قريتنا (خناصر) ليبتعد شيئا ما عن هذا الكابوس ، أما باقي أفراد العائلة وخاصة الكبار منهم ،فقد ظلوا لأكثر من أسبوعين لا يغمض لهم جفن إلا بعد شروق الشمس . فعادة كانت عمليات الإعتقال تحدث ليلا . فرغم أن الجميع كان يذهب إلى النوم قبل الساعة /١٢/ ليلا تقريبا ، ولكن صوت كل سيارة تعبر الشارع كان يوحي لنا بأنها قد تكون سيارة تابعة للمخابرات، وخاصة إذا توقفت بالقرب من بنايتنا، حيث في كل مرة تتوقف فيها سيارة في شارعنا، أرى أبي أو أخي، أو حتى نفسي، نتوجه إلى الشرفة لنمد رؤوسنا بحذر نحو الخارج ونحاول التحقق : هل هي سيارة المخابرات؟ وعندما نكتشف أنها مجرد سيارة مدنية، نحمد الله ونعود إلى فراشنا، على أمل أن نتمكن من النوم قليلاً.
بعد أيام عديدة بدأت الأمور تهدئ قليلا ولم يبقى سوى قلقنا وحزننا على أخي الذي لم نعلم عنه شيئا . ولكن بعد أسابيع قليلة وبسبب زيادة نشاط عمليات الأخوان المسلمين ، صدر قرار أمني بتفتيش جميع منازل مدينة حلب ومدن أخرى وأنه على جميع السكان أن يتواجدوا في منازلهم وعدم مغادرته حتى يتم تفتيش المنازل منزل منزل من أجل البحث عن الأسلحة والإرهابيين . فعاد القلق من جديد إلى أفراد العائلة ، ماذا لو إكتشفوا غياب أخي وسألونا عن سبب غيابه ، ماذا سنقول لهم وكيف سنقنعهم ونحن لا نعلم شيئا عنه .
في يوم التفتيش، كان قلق أفراد العائلة في أوجَّه، خاصة مع سماع صوت الدبابة الضخمة وعجلاتها المجنزرة تتحرك بين الأبنية، لتجعلها تهتز وتشعر ساكنيها وكأن الأبنية ستنهار فجأة ، مع أصوات بعض العساكر وهم يصرخون بغضب (إدخلوا بيوتكم وإغلقوا النوافذ ... إدخلوا بيوتكم..) تترافق مع رشقات من الرصاص لإرهاب السكان وزرع الخوف في قلوبهم. أغلقنا النوافذ وبدأنا نترقب دور منزلنا للتفتيش، ومرت الدقائق علينا وكأنها ساعات طويلة ، حيث تجمع جميع أفراد العائلة في صالون البيت، وكلٌ منهم يدعو في أعماقه أن تسير الأمور بخير وسلامة . وسرعان ما سمعنا طرقات على الباب، فنهض أبي بهدوء قائلاً بصوت منخفض: (بسم الله الرحمن الرحيم). وعندما فتح الباب، ازداد قلق أفراد العائلة وهم يرون عدد من العساكر يدخلون البيت . ولكني في تلك اللحظة شعرتُ فورًا بنوع من الطمأنينة عندما وقع نظري على وجه الضابط المسؤول، فقد كان وجهه يشبه وجه الملازم الأول يعقوب، قائد التدريب العسكري في كلية الزراعة. ( سأحدثكم عنه بعد قليل ) . وفعلا كان سلوك الضابط المسؤول عن التفتيش مختلف تماما عن سلوك العساكر ، فإسلوبه وهو يتحدث مع أبي كان فيه إحترام شديد . فقد طلب من العساكر الثلاثة الذين أتوا معه بتفتيش البيت ، ثم أخذ من أبي دفتر العائلة ونظر في صفحاته نظرة سريعة جدا ومن ثم ألقى نظرة سريعة أيضا على أفراد العائلة ، وأعاد دفتر العائلة إلى أبي . في تلك اللحظة شعرنا جميعا بزوال أمر إكتشاف غياب أخي وأن الأمور ستسير على خير ، ولكن أحد العساكر أتى حاملا بعض الكتب قائلا للضابط المسؤول (سيدي هذه كتب شيوعية) ، كانت هذه الكتب كتب أخي الكبير الذي يدرس في كلية الطب وكان من عادته أن يقرأ كتب فلسفية لتكوين ثقافة عامة عالية المستوى . عندما نظر الضابط إلى عناويين الكتب ومؤلفيها قال للعسكري (هذه كتب ثقافة عامة) ووضعها على الطاولة وأمر العساكر بالخروج ثم إعتذر لأبي عن الإزعاج بسبب التفتيش وإنصرف ، عندها تنفس أفراد العائلة الصعداء أخيرا وإنتهى ذلك اليوم العصيب على خير .
رغم أننا علمنا بعد فترة قصيرة بعض الأخبار عن أخي بأنه في الأردن وأنه يتابع دراسته هناك ، ولكن سلوكه الذي جعله يشذ عن السلوك العام للعائلة ، جعلني أومن تماما بأن أمي -رحمها الله- رغم أميتها و عدم معرفتها بالقراءة والكتابة سوى كتابة أسمها و الآية (بسم الله الرحمن الرحيم) ، كانت تفقه بروح الإسلام بعمق يتجاوز فهم معظم شيوخ المساجد ومعظم أساتذة كليات الشريعة الإسلامية، فطريقة تربيتها لأولادها جعل جميع أفراد العائلة محبوبين جدا من جميع مكونات الشعب السوري وكأنهم قد جمعوا محاسن جميع هذه المكونات بحيث جعلت جميع هذه المكونات يشعرون وكأن عائلتي هي جزء منهم ، فليس من الصدفة أن أبنائها قد حصلوا على شهادات جامعية في فروع علمية متنوعة (طب ، رياضيات ، زراعة ، كهرباء ، محاماة ، كيمياء) ، وكأن أمي أرادت تكوين عائلة متكاملة تُعبر تماما عن جمال تنوع تكوين الشعب السوري المتعدد المذاهب والقوميات . فرغم محاولة شيوخ المساجد تشويه تربية أخي ومحاولة تنمية التعصب الديني في داخله وفصله عن جمال هذه التعددية ولكن عمق تربية أمي وتأثيرها على سلوك أخي ، دفع إبنها الذي غادر سوريا هربا من نظام آل الوحش إلى متابعة دراسته ليحصل على شهادة ماجستير في الأدب العربي ليُزيد من مساحة هذا التنوع العلمي في العائلة . من بين تلك المقالات التي كتبها أخي ، مقالة عن الأخوان المسلمين ينتقد فيه سلوكهم وتعارضه مع تعاليم الدين الإسلامي .
منذ صغري كنت أشعر بإحساس شديد بوجود نوع من أنواع التدخل الإلهي في الأحداث اليومية ، ولكن مع بداية المرحلة الدراسية الجامعية ، كنت قد وصلت إلى الإعتقاد بأن حافظ الوحش وأتباعه لا يعطون أي أهمية لوجود الله عز وجل في سلوكهم وأفعالهم ، فرغم أنهم يذكرون أسمه في بعض المناسبات ولكن في الحقيقة هو غير موجود في عقلهم الباطني ، فهم يتصرفون وكأن حافظ الوحش هو الإله الأكبر وأنهم هم خليفته في مناطق وجودهم . وهذا الإعتقاد كان يثير قلقي على هذه الفوضى الروحية التي حلت على الشعب السوري ، وكأنهم يحاولون تغيير إحساسي عن التدخل الإلهي وأنهم قادرين على منع الله عز وجل من أي تدخل . ورغم أن من طبعي أن أسلم أمري لله في كل شيء بدون أي إعتراض أو تذمر ، إلا أن شيئا ما في أعماقي وأنا أشاهد حثالة الشعب يعبثون بكل المبادئ والقيم بلا رادع، كان يجعل روحي تتوق وتلتمس من الله إظهار وجوده لهم . ما بدأت أشعر به وكأنه كان صرخة داخلية تحاول فهم حقيقة ما يحدث .
مع إنتقالي إلى المرحلة الدراسية الجامعية (كلية الزراعة) ، بدأت أشعر وكأن الله عز وجل قد إستجاب دعائي . الملازم الأول يعقوب -الذي ذكرته سابقا - كان هو المسؤول عن مادة التدريب العسكري في كلية الزراعة . في السنة الأولى في هذه الكلية ، وفي الأسبوع الأول اختار الضابط يعقوب طالب ضخم البنية وبملامح رجولية خشنة وشكله يوحي وكأنه أكبر سنا من بقية الطلاب ، ليكون هو عريف الصف حيث يتولى مهام تقديم الطلاب في بداية ونهاية كل حصة كما هو المعتاد في التدريب العسكري في الجيش . ولكن في الأسبوع الثاني ، وبينما كان الضابط يكتب على اللوح، سمع ضحكات عالية من بعض الطلاب ، فالتفت إلى الوراء ليرى أصحاب تلك الضحكات . أخذ يجول ببصره بين الطلاب واحدًا تلو الآخر، ورغم أني كنت جالسا في الصفوف الخلفية ، عندما وقعت عيناه علي، توقف للحظات وأخذ يتمعن في وجهي جيدا وبدون أن ينطق بكلمة عاد إلى اللوح وتابع الكتابة . في البداية ظننت بأنه ظن أنني من أولئك أصحاب تلك الضحكات العالية . مع نهاية الحصة رأيته يرفع سبابته نحوي ويطلب مني أن أذهب إليه ، وعندما إقتربت منه وقفت أمامه منتظرا أن يسألني عن سبب تلك الضحكات ، ورأيته هو أيضا ينتظر مني أن أقول شيئا ، ولكني بقيت صامتا أنتظر منه هو أن يقول لي شيئا ، وطال الإنتظار للحظات ، كل واحد منا ينتظر الآخر ، في الأخير قال لي مستغربا (ماذا تنتظر؟) فأجبته (لا شيء سيدي ، أنا أنتظر ما ستقوله لي ) ، فقال بتعجب (أنا طلبت منك أن تأتي هنا ، لتقوم بتقديم تحية نهاية الدرس) . ضحك جميع الطلاب على هذا الحوار بيني وبين الضابط يعقوب ، قلت له (عذرا سيدي ، الآن فهمت) .
بعد إنتهائي من تقديم الصف ، سمعته يقول للطلاب وهو يشير نحوي بأنه من الآن فصاعدا سأكون أنا عريف الصف بشكل دائم ثم خرج . للحظات لم أصدق ما سمعته منه ، فملامح وجهي توحي بأنني أصغر سنا من جميع الطلاب ، وكذلك صوتي كان منخفضا لا يصلح للصراخ والتكلم بصوت عال جدا يسمعه أكثر من /١٥٠/ طالب . لهذا هرعت على الفور نحوه لأقنعه أن يختار شخصا آخر ، ولكنه أصر على أنني أفضل طالب لهذا الدور . في البداية إنزعجت كثيرا من هذا المنصب الذي فُرض علي ، ولكن شيئا فشيئا ومع مرور الأسابيع والأشهر والسنوات ، شعرت وكأن الضابط يعقوب كان بمثابة ملاك بشري أرسله الله إلي ليؤكد لي أن كل شيء يسير تحت سيطرته وأن ما يحدث في سوريا هو حكمة إلهية وأنه يمهل ولا يهمل . وهكذا بقيت عريف الصف وعريف طلاب كلية الزراعة لمدة /٤/ سنوات .
رغم أن الضابط يعقوب كان مسيحي سرياني وأنا مسلم ، ولكنه حاول أن يرفع من شأني لأبدو وكأنني أكثر طالب مدعوم بين جميع طلاب كلية الزراعة ، ففي نهاية كل عام دراسي كان يقول لهم : أنا لا أقبل بأي (واسطة) مهما كانت ، ومن يظن نفسه أنه سيرسب في مادة التدريب العسكري عليه أن يطلب واسطة عريف الصف فأنا أثق كامل الثقة بتقديره لكل واحد منكم . وأيضا في المعسكر الصيفي ومدته /١٤/ يوم ، الضابط يعقوب منحني حرية إنتقاء الطلاب لمنحهم إجازة المبيت ، الطلاب الحزبيين كانوا يأتون إلي ويحاولون إرضائي ليحصلوا على هذه الإجازة اليومية ، وطبعا كنت أنا الوحيد الذي له الحق بالمبيت يوميا خارج المعسكر.
بعد تخرجي من كلية الزراعة وبسبب كوني الطالب الأول في مادة التدريب العسكري وكذلك بسبب الفرق الشاسع في درجاتي مقارنة ببقية طلاب كلية الزراعة في هذه المادة ، أعتقد -والله أعلم- أن هذا كان أحد الأسباب التي أدت إلى فرزي أثناء تأدية الخدمة الإلزامية إلى كلية الشؤون الإدارية العسكرية في مدينة حلب. كانت هذه الكلية تبعد عن منزلي حوالي /١٥/ دقيقة فقط سيرًا على الأقدام، وهو أمر أثار دهشة جميع الطلاب والضباط المدربين فيها. فقد اعتقدوا أن سبب فرزي إلى هذه الكلية هو كوني مدعوم من مسؤول كبير في الدولة . كانت الكلية تقع بالقرب من حديقة وجامع ميسلون ، وميسلون هو اسم المعركة التي استُشهد فيها وزير الدفاع السوري يوسف العظمة . في الأيام الأولى لي في الكلية كان يتردد في ذهني أسم (يوسف) وأسم (يعقوب) والذي كان له الفضل في فرزي إلى هذ الكلية الحربية . قصة النبي يوسف عليه السلام كانت أحب القصص إلى قلبي من بين قصص الأنبياء كونها خالية من الحروب والقتال ،وكذلك أن النبي يوسف رغم أن أخوته بسبب غيرتهم منه باعوه ليصبح عبدا في مصر ، ومع ذلك عندما أصبح وزيرا لمصر سامحهم وساعدهم . محصلة هذا التفكير في إرتباط اسم يوسف مع أسم يعقوب الضابط الذي إختارني لأكون عريف الصف رغم أنه كان يعلم بأنني أكثر شخص مسالم بين طلاب كلية الزراعة ، خرجت بنتيجة بأنه يجب علي أن أعمل كمهندس زراعي في هذه الكلية وليس كعسكري .
كان منظر ساحة الكلية كئيبًا وبألوان رمادية وترابية باهتة، وكأنها منطقة جرداء، مع تلال من التراب المبعثرة هنا وهناك، فيبدو وكأنهم جلبوها بهدف إنشاء حديقة، لكنهم أهملوها وتركوا الأمر على حاله. لذلك، في اليوم الأول من الأسبوع الثاني من وجودي في الكلية، وبعد الاجتماع الصباحي لتحية العلم، أخبرت عريف الصف بأنني لن أذهب معهم إلى قاعة التدريس لأنني أستلمت مهمة إنشاء حديقة الكلية. عريف الصف صدقني ومضى مع بقية الطلاب إلى القاعة. أما أنا فتوجهت إلى مستودع الكلية وأخبرت المسؤول هناك بأنني مهندس زراعي ومكلف بمهمة إنشاء حديقة الساحة ، فصدقني هو الآخر وأعطاني بعض الأدوات اللازمة ، ثم اتجهت نحو الساحة وبدأت بتوزيع الأتربة على جميع الأطراف . كنت أعمل في تسوية الأتربة بينما بصري متجه نحو قاعات التدريس، حيث كنت أعلم أن النقيب (محمد الخطيب) - المسؤول عن الطلاب المجندين - سيذهب كعادته الصباحية لتفقد سير الأمور في كل قاعة، وأنه سيلاحظ غيابي وأنه سيستفسر عن الشخص الذي أعطاني مهمة إنشاء الحديقة .
كنت قد فكرت جيدًا بما سأجيبه عن سبب استلامي مهمة إنشاء الحديقة دون إذن من أحد، وقررت أنه مهما حدث، فإن النتيجة لن تتجاوز يومين أو ثلاثة في السجن ثم ينتهي الأمر وتعود الأمور إلى طبيعتها كما كانت من قبل. عندما رأيته يأتي من بعيد شعرت من أسلوب مشيته أنه كان منزعجا جدا لأني لم أخبره هو أولا عن هذه المهمة . شعرت بالقلق وبدأت أدعو الله بمساعدتي . في تلك اللحظة رأيت مدير الكلية ونائبه يخرجان من المبنى، يتحدثان معًا أثناء سيرهما في ساحة الكلية. النقيب محمد وكونه كان قادما نحوي محدقا بي بغضب لم يلاحظ وجودهما في الساحة ، وما أن إقترب مني حتى سألني بنبرة قاسية (من أعطاك مهمة إنشاء الحديقة؟) فأشرت بيدي نحو مدير الكلية وبطريقة لا يلاحظها سوى النقيب نفسه . إلتفت النقيب نحو المكان الذي أشرت إليه فشاهد مدير الكلية . النقيب كان متأكدا تمام بأنني مستحيل أن أكذب عليه ومدير الكلية أمامنا ، وأنا أيضا كنت متأكدا تماما بأن النقيب محمد لن يجرؤ أن يسأل مدير الكلية إذا كان هو حقا من أعطاني هذه المهمة . مع إقتراب مدير الكلية من مكاننا قمنا أنا والنقيب بتحيته فرد المدير التحية وقال (آن الأوان النقيب محمد أن نرى أخيرا حديقة خضراء في هذه الساحة) . على مايبدو أن مدير الكلية ظن أن النقيب محمد هو من أعطاني مهمة إنشاء الحديقة . والنقيب محمد بدوره أيضا ظن أن مدير الكلية هو حقا من أعطاني هذه المهمة كونه كان يعلم أنه طالما أن بيتي قريب جدا من الكلية فهذا يعني أنني شخص مدعوم من أحد المسؤولين الكبار في السلطة .
من تلك اللحظة أصبحت الطالب المدلل أيضا في كلية الشؤون الإدارية العسكرية . فبدلا من حضور الدروس العسكرية وتمارين الرياضة اليومية ، كنت أعمل ساعات قليلة في الحديقة صباحا ثم أجلس في أحد مكاتب الضباط الذين كانوا يطلبون مني بعض النصائح الزراعية في عناية نباتات الزينة أو الاشجار في بيوتهم . بعد الساعة الثانية ظهرا كنت أغادر الكلية ، أذهب أولا إلى البيت للغداء ثم أذهب إلى عملي في أحد محلات بيع أشرطة الكاسيت والفيديو . جميع الطلاب المجندين والمتطوعين، وجميع الضباط المدربين في الكلية - باستثناء مدير الكلية - كانوا يعلمون أنني قد تجاوزت جميع القوانين المفروضة على طلاب الكلية المجندين . فكنت أغادر الكلية يوميًا عند الظهيرة. بل إنني، في إحدى المرات، منحت نفسي إجازة مرضية لمدة أسبوعين لأن صاحب المحل الذي أعمل فيه ذهب في إجازة سياحية إلى تركيا، وكان عليَّ أن أتولى إدارة المحل طوال اليوم ولمدة أسبوعين . أشياء كثيرة ممنوعة فعلتها، ومع ذلك لم يتجرأ أحد على سؤالي: (من سمح لك أن تفعل ما تشاء؟). هكذا كان واقع سوريا في عهد حكم عائلة الوحش ، المسؤولون وأبناؤهم يتمتعون بالحرية المطلقة لخرق جميع القوانين من دون أي محاسبة . فللأسف سوريا لم تعد دولة قانون ومؤسسات، بل تحولت إلى دولة تحكمها المافيا والعصابات.
عندما أنهيت الخدمة العسكرية الإلزامية وخرجت من سوريا ، ظننت أني قد خرجت من منطقة سيطرة حكم آل الوحش ، ولكني سرعان ما إكتشفت أن هناك آل وحش عالمي يحكم العالم بأكمله بطرق مختلفة حسب كل منطقة من مناطق العالم . ولهذا شعر السوريون بعد الثورة على حكم آل الوحش الذي إرتكب أفظع الجرائم بحق شعبه ولمدة /٥٤/ عام ، أن العالم كله وقف بجانب نظام آل الوحش ضد الشعب السوري ، مما ألهم ظهور أغنية (يا الله .. ما لنا غيرك يا الله) التي غناها السوريون بعد خيبة أملهم من جميع حكام دول العالم.
في المقالة القادمة إن شاء الله سنتكلم عن المعنى الروحي لتحرير سوريا وعلاقته بآل الوحش العالمي بالمخطط الإلهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق