خواطر من الكون المجاور الخاطرة
الخاطرة ٢٦٠ : وداع الأرواح .
عندما إنتقلت عائلتنا للسكن في ذلك الحي المسيحي ، كنا أنا و إخوتي أطفالا صغار . في هذه المنطقة كان يوجد دار أيتام، وكان دار الأيتام هذا يقوم بصنع تقويم مسيحي ويمر في نهاية كل عام على جميع منازل المنطقة ليبيعهم تقويم العام الجديد بسعر رمزي كتبرعات تساعد في تدبير أمور الدار . في ذلك الوقت كانت بعض النساء المسيحيات وخاصة الكبار في السن يضعن منديلا على رأسهن ، لهذا عندما حان الدور و قدموا إلى منزلنا لبيع التقويم على أصحاب المنزل ، وفتحت أمي لهم الباب ظنوا بأنها مسيحية أرمنية وخاصة أن لغتها العربية لم تكن صحيحة كونها شركسية ، فحينا الذي عشنا فيه كانت نسبة كبيرة فيه من العائلات الأرمنية . أخذت أمي منهم التقويم ودفعت لهم بعض المال ليرحلوا بعدها . وهكذا بدأ يحدث هذا الأمر كل عام . ولكن في أحد المرات رأى أخي الكبير التقويم في يد أمي وكان أخي حينها طالبا في نهاية المرحلة الإعدادية ، وعندما قرأ ما كُتب على التقويم ، استغرب تصرف أمي معتقدا أنها ظنت بأن التقويم هو تقويم إسلامي كونها أمية لا تعرف القراءة والكتابة ، فقال لها بأن التقويم هو تقويم مسيحي . فأجابته بأنها تعرف ذلك ولكنها اشترته لأن المال الذي دفعته لهم هو عبارة عن تبرعات للأطفال اليتامى . فقال لها أخي بأن تتبرع لهم بالمال دون أن تأخذ التقويم منهم لأنه تقويم مسيحي ونحن مسلمون ولسنا بحاجة له . فكان رد أمي لإقتراح أخي : " لو فعلت ذلك فلن يأتوا إلينا مرة ثانية ، وسيخسر الأطفال اليتامى تبرعاتنا " . وبالرغم من أن ظروف عائلتنا المادية قد ساءت مع مرور السنوات ، ولكن مع ذلك كانت أمي تشتري منهم التقويم المسيحي في كل عام .
أذكر أنني عندما هاجرتُ إلى اليونان لمتابعة دراستي سألني أحد الموظفين هناك بعد أن رأى بيانات جواز سفري و بعد أن رفع نظره إلي وتمعن في وجهي جيدا فيما إذا كانت أمي يونانية ، فأجبته بالنفي ، فاستغرب الأمر . سؤاله هذا واستغرابه شغل فكري وقتها ولكن عندما تمعنت في اسم أمي مكتوبا بالأحرف اليونانية تفآجأت ، فإسم أمي الحقيقي (عائشة) ولكن في جواز السفر مكتوب (عيوش) ، والحرفان (ع) و (ش) غير موجودان في الأبجدية اليونانية ، لهذا تم تحويل حرف الـ (ع) إلى ( أغ) وحرف الـ (ش) إلى (س) فتحول الأسم من (عيوش) إلى ( أغيوس) ، حيث لفظ هذه الكلمة باللغة اليونانية يشبه تماما الكلمات (مقدس ، قديس ) . ولهذا ظن ذلك الموظف اليوناني أن إسم أمي هو إسم يوناني .
عندما علمت أن لفظ أسم أمي باللغة اليونانية يعني ( مقدس ، قديس) ، أحسست بشعور لطيف وجميل ، شعرت وكأن القدر قد أنصف أمي وأعطاها حقها لما فعلته لأولادها . فأمي رغم أن الظروف من حولها كانت قد منعتها من دخول المدارس لتتابع تعليمها ، فظلت أمية لا تجيد الكتابة والقراءة ، سوى كتابة إسمها (عائشة) وكذلك الآية الكريمة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، ولكن رغم ذلك كانت أمي بالنسبة لأولادها مدرسة ثانية استطاعت تعليم أولادها ما لم تستطع جميع الكتب المدرسية تعليمها لهم .
فحسب التقاليد الشركسية ، أن الأم تقوم بدور تربية أولادها مستخدمة الأسلوب الطيب الحنون الذي يخاطب روح الأطفال ليسيروا على الصراط المستقيم . فهي بالنسبة لأولادها هو ذلك الكائن الذي يمكن لهم أن يصارحوها بكل شيء دون أن يخفوا عنها أي شيء . وكل ما يجري بينها وبين أولادها تقوم بنقله لأبيهم بأسلوبها ليكون على علم بكل ما يجري من صغيرة وكبيرة في العائلة . ورغم أن الأب يشعر أن هذا الوضع يبعده عاطفيا عن أولاده ويحزنه لأنه لا يترك عاطفته الأبوية تمارس دورها من خلال اللعب والحوار معهم ، ومع ذلك يُسلم أمره لله طالما سعادة العائلة ومستقبل أولاده يتطلب هذا النوع من التربية . فهو يعلم تماما بأنه لا سمح الله لسبب من الأسباب إذا فشل أسلوب الأم الطيب هذا مع الأبناء، عندها سيأتي دوره بصرامته وقوته الرجولية ليدب الخوف والرهبة في إبنه الذي لم ينفع معه الاسلوب الطيب .
هكذا كان أسلوب تربيتنا أنا وأخوتي . والحمدلله أن أمي قامت بدورها على أكمل وجه فلم يضطر أبي إلى التدخل يوما ليقوم بدور الأب الصارم أو ليصرخ في وجه أولاده أو يضربهم . والحمدلله فرغم أن أمي كانت بسيطة وأُمية ولديها تسعة أولاد ، ولكنها بسلوكها الفطري كأم استطاعت براتب أبي البسيط أن تدير شؤون مصاريف البيت على أحسن حال وأن تهيء الظروف لأولادها ليستطيعوا متابعة دراستهم ويحصلوا على الشهادات الجامعية . وبإيمانها بالله وصلاتها وصيامها استطاعت أن تربي أولادها تربية يرضى عنهم الله والمجتمع . فكان أولادها محبوبين أينما ذهبوا ومن جميع من حولهم : مسلمي سنة وعلويين و دروز ومسيحيين ويهود ، عرب وسريان وأرمن وأكراد وشراكس . فلا أحد من أولادها وضع هدف حياته جمع المال والثروات ، ولا المجد ولا الشهرة ليؤذي الآخرين. فأهم شيء في حياتهم هو رضى الله ورضى الوالدين والعمل الصالح مع الآخرين وتقديم كل خير للمجتمع .
قبل أسبوع اتصل بي أخي وأخبرني أنه رأى مناما في الليلة الماضية وطلب مني أن أفسره له ، عندما حكى لي عن المنام شعرت مباشرة بشيء غريب ، ضيق في الصدر ممزوج بقلق وحزن . حاولت أن أخفي عن أخي ما شعرت به وقمت بتفسير المنام بطريقة مختلفة عما فهمته كي لا أقلقه . فقد رأى أخي في منامه أن أمي كانت على سطح البناية التي كنا نسكنها تنشر الغسيل . وكان على السطح ثلاثة قبور ، وفجأة رأت أمي بعض قطرات المطر تنزل من السماء ، فنظرت الى القبور الثلاثة فرأت أن القبر الثالث يوجد فيه فتحة فخشيت أن تدخل قطرات المطر من خلالها إلى داخل القبر ، فأسرعت لتغلق الفتحة فرأت في القبر الإمام علي عليه السلام وهو يُجهز القبر من الداخل ، وعندما نظرت أمي داخل القبر رأته واسعا وجميلا وفيه مختلف الفواكه والأطعمة الشهية فاندهشت أمي لما رأته داخل القبر من جمال ورزق . (انتهت الرؤيا).
بعد ثلاثة أيام من هذا المنام ، حصل ما فهمته من المنام ، فقد اتصل أخي الآخر وأخبرني بأن أمي قبل لحظات قد توفيت . رغم هول تلك اللحظة وأنا أسمع أن أعز إنسان إلى قلبي قد رحل عن هذه الحياة وأنا بعيد عنه . رغم ذلك حمدت الله أنه أرسل إلى أخي ذلك المنام ليواسيني في أحزاني ، فالقبور الثلاثة كانت لأفراد عائلتي ، القبر الاول كان لأبي -رحمه الله- الذي توفي قبل /٢٠/ عام ، والقبر الثاني هو قبر أخي الطبيب - رحمه الله - الذي توفي قبل /١١/ عام ، أما القبر الثالث الذي كان يجهزه الإمام علي فكان قبر أمي . وهذه القبور الثلاثة كانت على سطح البناية العالية وكأنها غرف في السماء مملوءة بكل ما يشتهيه الإنسان .
المعذرة أعزائي القراء ، كتابتي لهذه السطور ليس هدفها مشاركتكم أحزاني ، فأمي والحمدلله عاشت سنوات طويلة (٩١ عام) رأت وداعبت أحفادها وأولاد أحفادها . ورغم أنها تعذبت كثيرا من أجل تربية أولادها ، ولكن عندما كبرت في السن ولم تعد قادرة على القيام بتدبير الأمور في بيتها ، أخذتها أختي - وفقها الله - لتسكن معها ولتهتم بها وترعاها على أحسن ما يرام ، والحمد لله أن أولاد أمي وأحفادها جميعهم كانوا يحبونها ويتمنون رضاها وحاولوا أن يقدموا لها كل ما تتمناها لتعيش حياة سعيدة ، والحمدلله أن وفاتها حصلت وهي نائمة في فراشها في غرفتها وليس في المستشفى بسبب الآلام والأمراض . والحمدلله أن بعد رحيل أمي بثلاثة أيام رُزق حفيدها بمولود جديد ، وقدوم هذا المولود ساعد في مواساة أحزاننا ... هكذا هي سنة الحياة روح ترحل لتأتي مكانها روح جديدة والحياة تستمر .
الحياة نسبية ، فعندما ننظر إلى المستقبل نظنها طويلة ، طويلة جدا ستسمح لنا أن نفعل أشياء كثيرة فنؤجل الكثير منها . ولكن عندما ننظر إلى الماضي نشعر بأن ما عشناه كان فترة قصيرة ، قصيرة جدا لم تسمح لنا تحقيق كل ما تمنينا فعله . فمهما كانت الظروف - أخوتي القراء - لا تسمحوا لهذه الظروف أن تؤثر على علاقتكم وواجباتكم نحو آباءكم وأمهاتكم ، لا تبخلوا عليهم بحبكم وعطفكم لهم ، عبروا لهم كما يعبر الأطفال لأنهم عندما يكبرون في السن يتحولون إلى كائنات ضعيفة مثل الأطفال ، دعوهم يفرحوا باهتمامكم وعونكم لهم ، فلا أجمل من ذلك الشعور الذي يشعر به الأب أو الأم عندما يكبروا في السن فيرون في نظرات وسلوك أبنائهم نحوهم وكأنها تقول لهم ( لقد كنتِ أما عظيمة يا أمي ... لقد كنت أبا عظيما يا أبي) . وأدعوا لهم دوما بحسن الختام ، ليرحلوا بهدوء وسلام عندما يأتي موعد رحيلهم بعد عمر طويل إن شاء الله .
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤} الإسراء .
ز . سانا

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق