الثلاثاء، 20 أغسطس 2024

عقيدة التوحيد في الديانة الهندوسية .الجزء ٦

 خواطر من الكون المجاور

الخاطرة ٣٤٠ : عقيدة التوحيد في الديانة الهندوسية .الجزء ٦
في البداية أود أن أشير إلى ملاحظة هامة وهي أن مقالة اليوم تعتمد على معلومات غير مألوفة تم شرحها بالتفصيل في المقالات الماضية ، ومن لم يقرأ تلك المقالات سيجد صعوبة في فهم فقرات مقالة اليوم وسيظن أن المعلومات المذكورة فيها تعارض النصوص الدينية . ولكن الأمر ليس كذلك فالمعلومات المذكورة هنا تعطي رؤية شاملة تساعد في فهم حقيقة دور الديانات الإبراهيمية في التطور الروحي للإنسانية للوصول إلى الكمال .
في مقالة اليوم والتي تمثل الجزء -٢- من موضوع الديانة الهندوسية ، سنتابع شرح بعض الأمور الهامة الأخرى في هذه الديانة لنأخذ صورة شاملة عن حقيقة هذه الديانة وعلاقتها بالديانات الإبراهيمية ودورها الحقيقي في فهم عقيدة التوحيد .
الديانة الهندوسية -كما ذكرنا في المقالة الماضية- تتكلم عن الرب (براهما) الذي يُمثل رمز خليفة الله في الكون والذي وضع الله فيه شيفرة خلق كل شيء داخل الكون ، وهذه الشيفرة تتحكم في تطور كل صغيرة وكبيرة تحصل في داخل الكون . الرب براهما والذي يمثل رمز ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه في آدم والتي رمزها (١٨) ، فبعد خلق حواء من جسد آدم أخذت حواء قسم من هذه الروح ، وبعد طرد الإنسان من الجنة بسبب الخطيئة إختلت علاقة الترابط والإنسجام بين أجزاء الثلاثة في الرمز (١٨) وبسبب وجود روح الشيطان معها تحولت إلى الشكل المعاكس (١٧) والذي أدى إلى محاولة إفناء هذه الروح فتشكل الثقب الأسود البدائي ، ولكن الله أرسل روح هابيل إلى داخل هذا الثقب ليوقف عملية الإنهيار هذه ، فحدثت ظاهرة الإنفجار العظيم التي أدت إلى ولادة الكون وتضخمه قبل حوالي /١٤/ مليار عام . النصوص المقدسة الهندوسية -بإعتبارها أول ديانة إبراهيمية ظهرت في الوجود- تشرح لنا بطريقة رمزية مبسطة عما حصل في بداية خلق الكون بعد ظاهرة الإنفجار العظيم . الديانة الهندوسية-كما ذكرنا في المقالة الماضية - تعطينا صورة رمزية لجميع العقائد التي ظهرت منذ ظهور الإنسان على سطح الأرض وحتى ظهور الهندوسية . لهذا فهي لا تتكلم لا عن (الله الخالق الأعظم) الذي خلق آدم ولا عما حصل في الجنة التي تقع خارج الكون ، فالمعارف الإنسانية المحدودة جدأ عن العالم الخارجي في زمن ظهور الهندوسية وما قبلها ، كانت لا تسمح بذكر مثل هذه التفاصيل كونها ستجعل الإنسان يفكر ويتساءل عن أشياء فوق طاقة إدراكه وستدفعه في البحث في عالم خيالي عشوائي لا يستند على أي قاعدة عقلانية . فعدم الإشارة إلى (الخالق الأعظم) في الهندوسية ليس فقط أمر طبيعي جدا ولكنه ضرورة أيضا . فلو سألنا اليوم الأطفال اليهود والمسلمين والذين ولدوا في بيئة روحية تؤمن بإله واحد (الخالق الأعظم) ، سنجد أن هؤلاء الأطفال سيصفون هذا الإله بطريقة مشابهة للإله الموجود في الهندوسية والمسيحية المختلف عن الإله الذي يؤمن به كبار اليهود والمسلمين . فالطفل لديه صورة جسدية لهذا الخالق مشابهة لصورة إنسان ، والسبب هو أن إدراكهم الطفولي لا يسمح لهم بفهم المعاني المجردة . ولهذا نجد أن الديانة الهندوسية تستخدم العديد من الأصنام الرمزية التي تُعبر عن الصفات الروحية للرب (برهما) لتكون بالنسبة لهم بمثابة صلة وصل بين الإنسان والرب أو بمعنى آخر لتكون هذه الأصنام بمثابة تجسيد لهذه الصفات ليستطيعوا رؤيتها والإحساس بها لتساعدهم في الإتصال الروحي مع الرب براهما .
الكتب الهندوسية تذكر أن الرب برهما خلق نفسه من داخل بيضة ، هذه البيضة هي رمز الثقب الأسود البدائي ، فمع حدوث الإنفجار العظيم يبدأ تشكل الكون . وكما حدث مع آدم عندما خُلقت حواء من ضلعه أيضا خُلقت زوجة براهما ساراسواتي من جسد براهما . ولكن بعد ظهور الإنسان وولادة النبي يوسف وكذلك مع تحول أسم النبي يعقوب إلى إسرائيل -كما تذكر التوراة - يعود آدم إلى الجنة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ...٣٧ البقرة) ، عندها يأخذ هابيل -الذي ولد بأسم يوسف - مكانه ويصبح هو خليفة الله في الأرض . فالرب برهما في البداية كان يمثل رمز آدم (أبو الإنسانية) ولكن بعد عودته إلى الجنة يحل محله براهما جديد والذي يمثل هابيل الذي ولد عدة مرات (إدريس، يوسف ، عيسى، المهدي) .
في الديانات المصرية القديمة نجد معلومات مشابهة لهذا المعنى فالرب تحوت (هرميس) هو أيضا خلق نفسه بنفسه كرمز لروح هابيل التي دخلت الثقب الأسود البدائي (البيضة الأولى) فحدثت ولادة الكون ، ونجده أيضا يقول بأنه كان واحدا (كرمز ١٨) ثم أصبح ثلاثة . ولهذا يُسمى في اليونانية (هرميس ثلاثي القوة) فالرمز (١٨) يتألف من /٣/ أجزاء ، حيث كل جزء منه له دور خاص به (\ / | ) .
أيضا النصوص المسيحية أشارت إلى هذا التكوين ، فنجد أن عيسى عليه السلام يتحول فجأة من شخص واحد إلى /٣/ أشخاص (متى ١٧ : ٢ وتغيرت هيئته قدامهم ، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور ٣: وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه) . هذه الحادثة عند المسيحيين العرب معروفة بأسم (تجلي يسوع) أي أنكشف وإتضح أمره ، أما في اللغة اليونانية والتي تُعتبر لغة النسخة الأصلية للأناجيل ، فهي تستخدم كلمة (μεταμόρφωση) بدلا من (تجلي) وتعني (تحَّول) أي التحول من شخص واحد إلى /٣/ أشخاص . الآية القرآنية التي تذكر {.... وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ .... (١٧١) النساء} هذه الآية تتكلم عن (الخالق الأعظم) الذي لا أحد يمكن أن يصفه في أي صفة (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) . فالإسلام وكونه آخر ديانة كان دوره أن ينتقل إحساس الإنسان نحو الأرقى من داخل الكون إلى خارج الكون ومن الإحساس بخليفة الله إلى الإحساس بالخالق الأعظم . بينما النصوص الهندوسية والمسيحية هي تتكلم عن خليفة الله في الأرض (الكون) والتي رمزها (١٨) الذي يمثل الثالوث المقدس ، ولهذا الحكمة الإلهية في تصميم القرآن الكريم أعطت هذه الآية القرآنية الرقم (١٧١) وهو العدد المركب لرقم (١٨) . وهذا ليس صدفة ولكن تنويه يوضح الفرق في المعنى بين (الخالق الأعظم) وخليفة الله الذي رمزه (١٨) . فما هو مذكور في الإنجيل ليس شرك بالله وإنما هو ضرورة لفهم حقيقة روح الخير العالمية التي تحكم الكون .
الهندوسية أيضا تعتمد مبدأ الثالوث المقدس ، فنجد أن الرب براهما يتحول إلى /٣/ هيئات في هيئة واحدة :
١- براهما الخالق.
٢- فيشنو الباني (الحافظ) .
٣- شيفا الميمون (المدمر) .
كل هيئة من هذه الهيئات ال/٣/ هي في الحقيقة تمثل الأجزاء الثلاثة التي يتألف منها الرمز (١٨) ، فهي تمثل /٣/ في /١/ ، حيث براهما وفيشنو يمثلان الرمز (٨) ، أما شيفا فيمثل الرمز (١) . هذا الثالوث المقدس في الهندوسية هو رؤية من زاوية مختلفة للثالوث المذكور في المسيحية ، وكذلك هو زاوية رؤية أخرى للحقيقة المحمدية في الإسلام . فكما ذكرنا في مقالات ماضية ، أن أسم محمد هو أسم رمزي يتألف من مقطعين (محى - مد) وهو يمثل الحالة الإزدواجية في الأنبياء (موسى - هارون) و (عيسى - يحيى) و (أحمد - علي) ، وأن هذه الإزدواجية تمثل أيضا شخصية النبي يوسف ، فأسم يوسف في اليهودية له معنيين : الأول (ينزع ، يمحي) و الثاني (يُزيد) المذكور في الآيتين (٢٣ ، ٢٤) من الإصحاح (٣٠) في سفر التكوين . فأسم يوسف يمثل الحقيقة المحمدية (محى ، مد) . ولهذا نجد أن المرحلة الثانية من الخلق -كما ذكرنا في المقالة الماضية- تبدأ بصفة (محى) كرمز (١) من الرمز (١٨) ، والتي تمثل الحالة الجسيمية أي المادية (الهندوسية، اليهودية ، الحضارة اليونانية) أما المرحلة الثالثة فتمثل الحالة الموجية أي الروحية (المسيحية، الإسلام ، حضارة عصر النهضة) . فالهيئتان (برهما - فيشنو) تمثلان الرمز (٨) الذي له دور (الخلق والحفاظ عليه) أي تمثل معنى (يُزيد) ، أما الرب (شيفا) فيمثل دور (يمحي) أي الرمز (١) ، والذي دوره تنقية التكوين الإنساني من شوائب خطيئة الإنسان في الجنة، ولهذا أيضا نجد أن لفظ أسم عيسى في اليهودية هو (يوسع) الذي يبدو بالعربية وكأن مصدره الفعل (يوَّسع) أي يُزيد ، والأسم الثاني هو المسيح من فعل (يمسح = يمحي) .
حتى نفهم حقيقة الديانة الهندوسية يجب في البداية توضيح صفات (بلاد الهند) المنطقة التي ظهرت فيها الهندوسية ، وكذلك توضيح التكوين الروحي لأتباعها . فمنطقة شبه القارة الهندية لها شكل مثلث زاوية قمته تتجه نحو الأسفل (٧) ، وهذا الشكل ليس بصدفة ولكن حكمة إلهية ، فهذا المثلث يمثل رمز الرقم (٧) والذي يمثل رمز روح السوء العالمية التي دورها دفع روح الإنسان نحو الأسفل ومنعها من الصعود إلى الأعلى نحو السماء (العودة إلى الجنة) . فالهند كمنطقة تمثل رمز أفريقيا الثانية حيث القارة الأفريقية لها شكل مشابه لرأس إنسان له قرن (إنسان الثور) كرمز لرأس الشيطان والذي يمثل رمز روح السوء العالمية . فظهور الديانة الهندوسية كأول ديانة إبراهيمية في الهند لم يكن صدفة ولكن حكمة إلهية لها معنى ، حيث فهم هذا المعنى يساعدنا في فهم دور الهندوسية في التطور الروحي للإنسانية .
حتى نفهم المعنى الرمزي لشكل خارطة الهند المشابه للشكل (٧) ، علينا أن نعلم بأن الهند قبل مئات ملايين السنين كانت حينها ملتصقة بالقارة الأفريقية ولكنها إنفصلت عنها تدريجيًا وعبرت المحيط الهندي واصطدمت مع الصفيحة الأوراسية (كما توضح الصورة في الأسفل) ، هذا التصادم بين الصفيحتين أدى إلى نشأة سلسلة الهيمالايا المتاخمة للهند من الشمال .
فالهند -كمنطقة- مثلها مثل أفريقيا أيضا تمثل (برج بابل) بمعناه السلبي (البلبلة) ، وكما حصل مع يوسف -عليه السلام- الذي ذهب إلى مصر وأنشأ هناك حضارة عصر الأهرامات كعلامة إلهية لها معنى إنتصار النبي يوسف (حورس رب النظام والعدالة) على الشيطان (سيت إله الفوضى) ، أي أن برج بابل تحول من معناه السلبي (بلبلة) إلى معناه الإيجابي (باب الله) وهذا الإنتصار كان رمزه ظهور أهرامات مصر التي شكلها الهندسي (٨) هو معاكس للشكل (٧) . أيضا فإن ظهور الديانة الهندوسية في الهند تمثل إنتصار (النظام) على (الفوضى) في شبه القارة الهندية وتحويلها من برج بابل (البلبلة) إلى برج بابل (باب الله) ، مع فارق بسيط وهو أن المنتصر هنا لم يحصل على يد شخص (يوسف) يُمثل خليفة الله في الأرض ، ولكن على يد جماعة كبيرة تتألف من أعراق عديدة تمثل رمزيا إنتصار نسل آدم على نسل قايين . ولهذا كان رب هذه الديانة أسمه (برهما) والذي يمثل (أبو الأمم) ، فالنبي إبراهيم (كرمز لآدم بعد الخطيئة) عندما ذهب إلى أفريقيا -في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد - ليقوم بهذا الدور فشل وكاد ملك مصر (رمز إنسان الثور) أن يخطف من إبراهيم زوجته سارة (كرمز لحواء) ليجعلها تنجب منه أبناء له (كرمز لنسل قايين) ، ولكن الله ساعد إبراهيم وحرر زوجته من ملك مصر ، ليخرج مع زوجته وقومه من أفريقيا . وفي الهند أيضا حدثت نفس القصة بشكلها الرمزي مع فارق في النتيجة، ففي نفس الفترة الزمنية التي ذهب إبراهيم عليه السلام إلى مصر ، ظهرت حضارة في الهند تسمى اليوم حضارة وادي السند والتي إستمرت حتى عام /١٩٠٠/ قبل الميلاد ، وأهم إله لهذه الحضارة كان له شكل حيوان له قرنين ، علماء الآثار يقولون بأن شكله يشبه الجاموس ، في الحقيقة هذا الإله كان رمز إله الثور (إنسان الثور) الذي يُمثل شكل خريطة أفريقيا . فشعب منطقة الهند كان بمثابة نسل قايين الذي إنتقل -روحيا- من أفريقيا إلى الهند . لهذا كان شكل شبه القارة الهندية يشبه الشكل (٧) بعكس شكل الهرم (٨) الذي جعله النبي يوسف شعارا روحيا لبلاد مصر القديمة كرمز لإنتصار نسل آدم على نسل الشيطان .
مع مرور الزمن بدأت تحدث كوارث طبيعية في الهند ساهمت في تدمير حضارة وادي السند حتى وصلت إلى مرحلة فقدت فيها جميع قواها ، فبعض العلماء يعتقدون أن شيئا ما يشبه الإنفجار النووي (كما حصل مع قوم لوط) قد سبب شبه فناء هذه الحضارة . في تلك الفترة وبالتحديد في القرن /١٩/ قبل الميلاد بدأت تأتي قبائل آرية من الشمال الغربي ، هذه القبائل كانت تمثل رمز إبراهيم (أبو الأمم) . هذه القبائل إستطاعت أن تتحد مع قبائل وادي السند التي ظلت على قيد الحياة وبدون معارك (كما حصل في مصر القديمة مع يوسف الذي وحد مصر العليا ومصر السفلى) ، وشكلت معها شعب جديد يمثل نسل (آدم) والذي عن طريق المنذرين الذين ولدوا في هذه المنطقة تم تكوين الديانة الهندوسية والتي معناها (النظام الإجتماعي ، لغة الملائكة) . فمع ظهور الديانة الهندوسية تم تهميش إله الثور (إله الظلام والفوضى) بشكل شبه نهائي وظهرت بدلا منه أرباب (وليس آلهة) يمثلون صفات روح الخير العالمية. ولهذا لا نجد أي صنم له شكل ثور أو بقرة في المعابد الهندوسية ، إنما فقط أصنام لها أشكال إنسانية أو شبه إنسانية .
النبي إبراهيم عليه السلام الذي ذهب إلى مصر -كما ذكرنا قبل قليل - ولد في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد . ولكن إذا حسبنا عام ولادة إبراهيم حسب التقويم اليهودي سنجد أنه ولد عام /١٨١٥/ قبل الميلاد ، فهذا العام ليس عام ولادة النبي إبراهيم عليه السلام ولكنه عام ولادة الديانة الهندوسية (براهما) في الهند . ذكرنا في المقالات الماضية أن المدة الزمنية للمرحلة الثانية (هندوسية ، يهودية ، الحضارة اليونانية) تعادل (١٨٨١) عام ، إذا طرحنا من الرقم (١٨٨١) الرقم (١٨١٥) سيكون الناتج (٦٦) ، إن عام (٦٦) هو عام وفاة الرسول بولس والذي أخذ دور النبي يحيى عليه السلام بعد وفاته ليصبح هو الشخصية الثانية بعد عيسى عليه السلام في الديانة المسيحية ، فالرسول بولس يمثل الرمز (١) من الرمز (١٨) . بهذه الطريقة الكتب المقدسة تحدد لنا بشكل دقيق عام ظهور الديانة الهندوسية وهو عام (١٨١٥) قبل الميلاد ،والذي يمثل عام ولادة أول ديانة إبراهيمية .
من يبحث في النصوص الدينية في الهندوسية سيشعر بوجود نوع من الإختلاف بينها وبين الديانات السماوية من حيث نوعية العقيدة ، فالهندوسية تبدو وكأنها عقيدة فلسفية أكثر من كونها عقيدة دينية ، ولهذه نجد الكثير من المفكرين الغربيين الذين أساؤوا فهم النصوص الدينية وظنوا بوجود نقاط ضعف في ديانتهم المسيحية ، فبدلا من أن يتجهوا إلى الإلحاد فضلوا الإتجاه نحو الهندوسية لأنهم وجدوا فيها الأجوبة على تلك التساؤلات التي عجزت النصوص المسيحية في الإجابة عليها .
فالإنسان المعاصر كونه روحيا يعيش في مرحلة سن الرشد وخاصة أنه يعيش في عصر إستطاعت التكنولوجيا أن تجعل الكرة الأرضية وكأنها مدينة واحدة يستطيع الإنسان الإنتقال فيها من طرف إلى طرف آخر خلال ساعات قليلة ، وأن يتحدث مع شخص آخر (صوت وصورة) خلال ثانية واحدة ، أيضا وبسبب إكتشاف المجرات والنجوم والكواكب ، أصبح الكون بالنسبة له جزء من وجوده على الأرض . هذه الكم الهائل من المعلومات التي وصلت إلى فكر الإنسان المعاصر -وبدون أن يعي- خلقت في داخله إحساس شديد بوجود وحدة عالمية هو جزء منها . هذا الإحساس بهذه الوحدة العالمية لم يجدها الإنسان المعاصر لا في المسيحية ولا في اليهودية ولا في الإسلام وذلك بسبب التعصب الديني والمذهبي الذي أدى إلى إنغلاق هذه الديانات على أنفسها كونها وصلت إلى تلك المرحلة التي وصفها الحديث الشريف (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) . فالديانات السماوية بشكلها الحالي اليوم وبسبب سوء تفسير علماء الدين لنصوصها الدينية وعدم تجديد معانيها لتناسب العصر ، أصبحت تَعتبر الناس وكأنهم عبيد لله وأن العبادة هي مجرد علاقة بين الله والإنسان فقط (صلاة ، صوم ، حج) ، أما علاقة الإنسان بالإنسان ، فرغم أن النصوص الدينية لهذه الديانات تعطيها أهمية كبيرة ولكن في عصرنا الحاضر فقد تم إهمالها تماما مما أدى في النهاية إلى ظهور التعصب الديني والمذهبي بأسوأ أشكاله في هذه الديانات . وكذلك أيضا تم إهمال علاقة الإنسان بالطبيعة فأصبحت الطبيعة أيضا في أسوأ أحوالها (الإحتباس الحراري) . هذه التشويهات في تفسير نصوص الديانات السماوية جعلت (إله) هذه الديانات في نظر هؤلاء المفكرين وكأنه إله تمزيق وليس إله توحيد فهو يُحرض على الكراهية والعنصرية والعنف بين الشعوب . ولكن الحقيقة مغايرة تماما فالقرآن الكريم يستخدم كلمة (عباد) وليس عبيد ، ويعطي أهمية كبيرة لعلاقة الإنسان بالإنسان فالحديث الشريف يذكر (خير الناس أنفعهم للناس) . وكذلك الآية القرآنية تذكر {....أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...(٦١) هود} أي بمعنى لتعمروها لتجعلوها منطقة جميلة ماديا وروحيا ، فبدون وجود الإحساس بإحترام الطبيعة والعناية بها لا يمكن أن يتم تعمير الأرض لتكون بيئة -روحيا وماديا- صالحة للعيش فيها بحيث تسمح للإنسانية بمتابعة سيرها على الصراط المستقيم لتصل إلى الكمال .
الحكمة الإلهية وضعت الديانة الهندوسية كأول ديانة إبراهيمية لأنها تعطي أهمية كبيرة جدا لعلاقة الإنسان بالإنسان وكذلك علاقة الإنسان بالطبيعة ، فالإحساس بهذه العلاقة هو أهم بكثير من الإحساس بالعلاقة بين الله والإنسان ، فأول طريق للوصول إلى الخالق الأعظم (عقيدة التوحيد) يأتي من خلال إحساس الإنسان بالإنسان الآخر ، فبدون وجود هذا الإحساس يختفي الإحساس بالله ويحل محله الإحساس بإله مزيف يمثل روح الشيطان ، فبدلا من أن يصلي الإنسان لله (الخالق الأعظم) يذهب ويصلي للشيطان ظانا نفسه أنه يتعبد الله كما يفعل الخوارج . لهذا نجد أن الهندوسي عندما يُلقي التحية على الآخرين يستخدم عبارة (انامستيه) بدلا من تحية (السلام عليكم) عند المسلمين ، فعبارة (أنامستيه) تعني (أنا أركع لك) وهذه العبارة ليست شرك بالله كما يحاول بعض العلماء المسلمين -الجهلة- تفسيرها ، فهي تعني أن الهندوسي يرى في كل إنسان أن هذا الإنسان هو كائن يحوي في تكوينه جزء من روح الله (التي نفخها في آدم) ، ومن أجل هذه الروح الهندوسي مفروض عليه أن يقدم للإنسان الآخر كل ما يستطيع من مساعدة لتستطيع هذه الروح الإلهية في داخله أن تتحكم في سلوكه اليومي ليكون فردا صالحا في المجتمع . فالإنسان في الهندوسية كائن مقدس كونه يمثل تجسيد لذلك الجزء البسيط من روح الرب براهما (روح الخير العالمية) . فحسب تصور الهندوسي أن صفات روح براهما قد تم توزيعها على جميع أفراد البشر وأنه من خلال التعاون الناس مع بعضها البعض سيتم توحيد هذه الصفات لتصل الإنسانية إلى الكمال . الهندوسي أيضا يشعر بالإحترام الشديد لعناصر الطبيعة ويعتبرها بمثابة تجسيد لجزء بسيط من روح الإنسان . فالطبيعة هي تجسيد للإنسان ، والإنسانية بمختلف شعوبها هي تجسيد لروح براهما والذي يمثل روح الخير العالمية .
العقيدة الهندوسية تعتمد مبدأ أن هدف وجود الإنسان هو التخلص من الحياة على الأرض المليئة بالمغريات التي تثير الغرائز الحيوانية وتدفع الإنسان إلى تحقيق رغبات هذه الغرائز وهذا ما يخلق الفوضى والصراعات بين البشر . لهذا فإن تعاليم الهندوسية تساعد الإنسان في السيطرة على نفسه لتنقيتها من هذه الغرائز ليستطيع الإتحاد مع روح الرب براهما في السماء .
وهذا الهدف في الهندوسية يتحقق عن طريق معرفة الصفات الروحية في الرب براهما حيث فهمها وإكتسابها يحقق تطهير الجسد والروح ، هذا الهدف مذكور أيضا في الحديث الشريف بطريقة رمزية (إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، من أحصاها؛ دخل الجنة) والمقصود هنا هو فهم دور الرمز (١٨ - ٨١) في تكوين الكون ومراحل تطوره ، فصفات هذه الروح موجودة في جميع أنحاء الكون {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤) الإسراء} . فالديانة الهندوسية تدفع رجال الدين البحث في الإنسان والطبيعة والفضاء الخارجي لكشف تلك الصفات الروحية (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) العنكبوت} . فالديانة الهندوسية تؤمن بعقيدة وحدة الوجود بالمعنى المذكور في هاتين الآيتين بهدف معرفة أماكن تواجد صفات الرمز (١٨) ودورها في تكوين كل شيء في الكون . لهذا الهندوسيون يقدسون أشياء كثيرة في الطبيعة والسماء (حيوانات ، نباتات ، أنهار ، شمس ، نجوم ... ألخ) ، فحسب عقيدتهم بأن هذه الأشياء تمثل رموز روحية حيث فهم علاقة الإنسجام فيما بينها وكذلك فهم الحكمة الإلهية فيها سيساعدهم في فهم الصفات الروحية التي تقربهم من الرب براهما وتساعدهم في تحقيق نظام إجتماعي صالح يسمح لهم في متابعة عملية تطهير أنفسهم (التطهر من خطيئة الجنة) بهدف الإتحاد مع روح الرب برهما (العودة إلى الجنة) .
الهندوسيون في الحقيقة يعبدون رب واحد (رب العائلة الإنسانية) أما تلك التي يسمونها اليوم آلهة والتي يتجاوز عددها أكثر من /٣٣٠/ مليون ، فمعظمها ظهرت بسبب سوء فهم وبسبب دخول روح السوء إلى نفوس بعض الكهنة كما حصل في الإسلام والمسيحية واليهودية ، ولكن الحقيقة فإن تعدد الأرباب (وليس الآلهة) في الهندوسية هو عبارة عن تجسيد للصفات الروحية (الأسماء الحسنى) التي تساعدهم في فهم حقيقة الرب براهما ليستطيعوا التقرب منه أكثر فأكثر . أما بالنسبة لتقديس البقرة -وليس عبادتها- فسببه هو تلك التشويهات التي حدثت في تفسير النصوص الدينية عبر الأجيال والتي وصلت اليوم إلى مستوى جعل الأمة الهندوسية تعود إلى الوراء إلى زمن عصر حضارة وادي السند حيث كان إله هذه الفترة هو إله الثور . فرفع قدسية البقرة إلى ما هو عليه اليوم هو دليل إلهي على أن الهندوسية أيضا مثلها مثل بقية الديانات العالمية ينطبق عليها الحديث الشريف (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) كرمز روحي له معنى أن الهند أيضا قد خسرت الحرب مع روح الأعور الدجال وأصبحت اليوم تحت سيطرة نسل قايين الذي يمثل الرمز (٧ = بلبلة) .
من أهم أسس الهندوسية هو الإيمان بعقيدة (الكارما) والمعنى الفلسفي لكلمة (كارما) هو "أن لكل عمل يقوم به الإنسان نتيجة وهذه النتيجة سترتد عليه في المستقبل . فإذا كانت النتيجة تساهم في إصلاح المجتمع سيكافئ عليها ، وإذا كانت تفسد المجتمع فسيعاقب أيضا عليها " . كتاب بريهادارانياكا أوبانيشاد الهندوسي يشرح لنا معنى الكارما بهذه الكلمات :
"يصفا بصفاء صنائعه، ويفسد بفسادها؛
يُقال هنا أن المرء مجبول من رغبات،
وكما تكون رغبته، تكون إرادته؛
وكما تكون إرادته، تكون صنيعته؛
وسيحصد، أيّما زرعه ".
هذا المبدأ في تطبيق العدالة المطلقة على أعمال الإنسان مذكور في الآية القرآنية {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨) الزلزلة } . الكارما قد تقع على الإنسان أثناء حياته {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (٣٠) الشورى} ، أو بعد مماته . في الديانات السماوية الإنسان بعد وفاته يذهب إلى الجنة أو إلى جهنم وذلك حسب درجة أعماله الصالحة أو أعماله السيئة ، ولكن في الهندوسية فالأمر فيه أكثر تفصيلا . فمن أهم أسس الديانة الهندوسية هو الإيمان بعقيدة التقمص (تناسخ الأرواح) أي أن الإنسان بعد وفاته تعود روحه ويولد من جديد في عصر جديد ليكتسب معارف جديدة وليتابع تنقية نفسه من الشوائب . فالهدف الأول من وجود الإنسان على سطح الأرض في الهندوسية ، هو محاولة التخلص من الحياة على سطح الأرض والصعود نحو السماء ليستطيع الإنسان الإتحاد بالروح العالمية (برهما) وهذا الهدف هو رؤية بزاوية أخرى لمعنى العودة إلى الجنة الذي تعتقده الديانات السماوية . فبكاء الطفل عند ولادته كان بالنسبة للهندوسي بمثابة تعبير روحي له معنى أن هذا المولود كان بمكان أفضل في السماء وأن ظهوره على سطح الأرض هو بمثابة دخوله سجن إصلاحي يفرض عليه التخلص من رغبات النفس الدنيئة وشهواتها الحيوانية والتي جعلته يهبط إلى الأرض .
وإن عملية تنقية تكوينه من تلك الشوائب لا يمكن أن تحصل في ولادة واحدة ولكن من خلال العديد من الولادات كون هذه الشوائب لها مستويات مختلفة لا يمكن معرفتها إلا عن طريق تطوير معارفه لفهم حقيقة ما يحصل حوله لفهم جميع صفات الروحية لرب براهما (الأسماء الحسنى) .
عقيدة التقمص في الحقيقة تمثل القاعدة الأولى التي يرتكز عليها مكارم الأخلاق . الله عز وجل ذكر عقيدة التقمص في الكتب المقدسة السماوية بشكل رمزي وليس بشكل ظاهري يمكن أن يراها أي يهودي أو مسيحي أو مسلم ، ولهذا أيضا أمر الله رسله (موسى ، عيسى ، محمد) عليهم الصلاة والسلام، بعدم التكلم عن عقيدة التقمص ليعلم علماء اليهودية والمسيحية والإسلام أن فهمهم لدينهم يعاني من نقطة ضعف في إثبات وجود عدالة مطلقة ، وأن إثبات وجودها يحتاج إلى التعاون مع الديانة الهندوسية والتي تمثل أول ديانة إبراهيمية.
عقيدة التقمص تكلمنا عنها بشكل مفصل في الخواطر رقم (٦٢ - ٦٣ - ٦٤) ، ولكن هنا سنذكر بعض الأشياء الهامة منها لنثبت صحة هذه العقيدة :
- إن عدم الإيمان بصحة عقيدة التقمص يعني مباشرة إنهيار مبدأ العدالة المطلقة من الوجود ، فالسبب الأول لتوجه بعض أتباع الديانات السماوية نحو الإلحاد هو هشاشة العدالة الإلهية التي يتحدث عنها علماء هذه الديانات ، فهذه النوعية من العدالة التي يتكلم عنها علماء الديانات السماوية هي عاجزة عن الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي تتعلق بفلسفة الوجود . مثلا لماذا يوجد أشخاص مصابين بعاهات خلقية منذ ولادتهم بحيث هذه العاهات تجعل حياتهم جحيما حتى وفاتهم ؟ عالم ديني (يهودي ، مسيحي ، مسلم) سيجيب بأن الله يفعل ما يشاء . الملحد في عصرنا الحالي لن يقتنع بمثل هذه الإجابة الفقيرة ، وسيرد عليه بأن هذا يعني بأن هذا الإله غير عادل وغير رحيم . عالم ديني آخر سيجيب على السؤال السابق بأنه إختبار من الله ، ولكن هناك عاهات عقلية ، فأي إختبار يمكن أن يحدث على شخص مصاب بقصور عقلي منذ ولادته ، فما ذنب هذا المعاق وما ذنب أهله لتكون حياتهم عذاب بعذاب ؟ سؤال آخر : هناك أطفال يولدون في عائلة فاسدة تعيش في مجتمع فاسد ، وأهم قانون في علم النفس التربوي والمعروف شعبيا بمقولة (من شاب على شيء شاب عليه ) ، فمصير الطفل الذي يولد في بيئة فاسدة أن يكون مصيره بنسبة /٩٠%/ على الأقل عندما يكبر أن يكون هو أيضا فاسد . فالطفل الذي يولد في مثل هذه الأحوال الفاسدة سيكون كائن شبه مسير وليس مخير ، والكائن المسير قانونيا لا يمكن محاسبته على أعماله لأنه لم يكن لديه خيار آخر . فما ذنب الطفل الذي كان قدره أن يشب على الفساد ويموت فاسدا بأن يكون جزائه جهنم ، فلو أنه ولد في عائلة صالحة ومجتمع صالح لكان مصيره /٩٠%/ أن يكون شخص صالح يستحق دخول الجنة . فأين العدالة إلهية المطلقة في تحديد مصير الطفل الأول (الفاسد) والطفل الثاني (الصالح) .
موسى عليه السلام كان منذ ولادته تحت رعاية إلهية أبعدته عن إرتكاب المعاصي . أما فرعون فكان منذ ولادته في رعاية شيطانية دفعته لإرتكاب المعاصي . وهذا يعني أن موسى خُلق مؤمنا ، أما فرعون فخُلق كافرا ، أين هذه العدالة المطلقة التي ستعطي موسى الحق في دخول الجنة ، وستعطي فرعون جزائه في دخوله جهنم ؟ موسى وفرعون كانا كائنين مسيرين ، والكائن المسير قانونا لا يحاسب على أعماله . فالحيوانات لا تُحاسب يوم القيامة كونها كائنات مسيرة .
الديانة الهندوسية هي الوحيدة التي تستطيع الإجابة على مثل هذه الأسئلة لتؤكد صحة معنى الآية الأولى من القرآن الكريم (بسم الله الرحمن الرحيم) . الله أختار موسى ليكون هو رسوله لأن تكوينه الروحي نتيجة أعماله الصالح التي قام بها في حيواته الماضية جعلته أن يكون هو الأنسب لتمثيل روح الخير والقيام بالدور الذي قام به في تحرير بني إسرائيل . وكذلك الله إختار فرعون كون أن تكوينه الروحي في حيواته الماضية من أعمال سوء قام بها جعلته أن يكون الأنسب لتمثيل روح السوء . فموسى هو الذي إختار بإرادته الحرة أن يكون طريقه إلى الجنة ، وكذلك فرعون هو الذي إختار بإرادته الحرة أن يكون طريقه إلى جهنم . لهذا كانت الهندوسية هي أول ديانة إبراهيمية تظهر على الوجود ، لتؤكد وجود عدالة إلهية مطلقة (ستحصد ما زرعته) .
الديانة الهندوسية من خلال عقيدة التقمص تفسر لنا العدالة إلهية في النظام الإجتماعي ، فحسب مستوى إيمان الإنسان ودرجة أعماله في حياته السابقة ، الله يحاسبه عليها في ولادته الجديدة ، فحياته الجديدة هي بمثابة جنة بدائية أو جهنم بدائية ، ولهذا يوجد /٤/ طبقات للمؤمنين في النظام الإجتماعي الهندوسي وهي:
١- طبقة البراهما وهم الأشخاص الذين يولدون في عائلة الكهنة ، وهم يمثلون أصحاب المستوى الأعلى من الإيمان والأعمال الصالحة في حياتهم الماضية . لهذا كانت ظروف الحياة الجديدة التي ولدوا فيها تعتبر الأفضل في المجتمع .
٢- طبقة أفراد الجيش وهي الطبقة التي أصحابها يمثلون الدرجة الثانية في الإيمان والعمل الصالح في حياتهم الماضية . لهذا كانت مكانتهم الإجتماعية ومستوى معيشتهم في ولادتهم الجديدة بمستوى جيد جدا ولكن أقل من الطبقة الأولى .
٣- طبقة التجار وأصحاب المحلات التجارية وهم يمثلون الدرجة الثالثة في الإيمان والأعمال الصالحة ، ولهذا كانت مكانتهم الإجتماعية ومستوى معيشتهم في الولادة الجديدة جيدة ولكنها أقل من الطبقة الأولى والثانية .
٤- طبقة العمال والفلاحين وهي تمثل أدنى مستويات الإيمان والعمل الصالح. ولهذا كانت مكانتهم ومستوى معيشتهم في ولادتهم الجديدة متوسطة وأقل من الطبقات الثلاثة السابقة .
- هناك طبقة منفصلة عن الطبقات الأربعة السابقة وهي طبقة المنبوذين وتمثل أولئك الذين كانوا في حياتهم الماضية عبيد لشهواتهم الجسدية الدنيئة ، لهذا كان جزائهم في ولادتهم الجديدة أن يكونوا من طبقة العبيد والخدم .
قانون الكارما في النظام الإجتماعي الهندوسي يفرض على الإنسان أن يبقى طوال حياته في نفس الطبقة التي ولد فيها ولا يمكنه تغيير مصيره ، فهو جزاء له من الرب براهما لما فعل في حياته السابقة ، لهذا يجب عليه أن يتقبله بكل رحب صدر ، وأن يتابع حياته ويزيد إيمانه وأعماله الصالحة فحسب درجة إيمانه وعدد أعماله الصالحة التي سيفعلها في حياته سيحدد هو بنفسه الطبقة التي سيولد فيها في حياته القادمة . أما عدم القبول بقدره ووضعه الإجتماعي والتذمر طوال حياته على حظه ومحاولة عصيانه عليه لتغيير قدره بالقوة والإحتيال فعندها سيكون جزاؤه في حياته القادمة ولادته كحيوان وعندها سيخسر تكوينه الإنساني الذي أتى من براهما .
إن تطبيق هذا النظام الإجتماعي في الهندوسية جعل الهندوس بشكل عام شعب بسيط قنوع يؤمن بالقدر كما تُعبر عنه الآية القرآنية {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (٣٠) الشورى} .
إن الإيمان بعقيدة التقمص وأن الإنسان يولد عدة مرات يؤكد أن الله هو الرحمن الرحيم ، أما عدم الإيمان بهذه العقيدة فيعني بشكل غير مباشر أن الإنسان أكثر رحمة من الله عز وجل (حاشاه ذلك) ، فنظام التعليم -مثلا- والذي وضعه العقل البشري ، لا يطرد الطالب الكسول من المدرسة إذا رسب في صفه ، بل يعطيه فرصة ثانية وثالثة ، فهل من المعقول أن الله عز وجل (الرحمن الرحيم) لا يعطي الإنسان سوى فرصة واحدة في حياته وإذا فشل فيها سيكون مصيره مباشرة جهنم وبئس المصير؟ هل هذا هو مستوى الرحمة الإلهية والعدالة المطلقة التي يظنها علماء الديانات السماوية بإلههم ؟
موضوع التقمص والطبقات الإجتماعية الخمسة ليست بهذه البساطة فهو موضوع معقد جدا ويحتاج إلى شرح طويل يوضح لنا حقيقة التوزيع الإجتماعي في الولادة الجديدة ، وهذا الموضوع شرحناه في سلسلة المقالات التي تتكلم عن موصوع التقمص .
أول من تكلم عن التقمص وجعلها عقيدة يؤمن بها بشدة شعب كامل هو النبي يوسف عليه السلام ، ولكن بعد وفاته بعدة أجيال قام بعض الكهنة المصريين بتشويه معناها فتحولت عقيدة التقمص إلى شكلها المادي أي عودة الروح إلى نفس الجسد وليس عودة الروح إلى جسد جديد (ولادة جديدة) ، فظهرت عمليات التحنيط في مصر القديمة بهدف المحافظة على الجسد . لهذا كانت الحكمة الإلهية أن تضع شريعة حرق الموتى في الهندوسية كعلامة إلهية لها معنى يوافق تعاليم النبي يوسف ويعارض تعاليم الكهنة المصريين ، فالجسد مجرد قميص يتم تجديده بين كل فترة وفترة ليناسب الظروف الجديدة .
أدلة صحة عقيدة التقمص في الديانات السماوية تكلمنا عنها بالتفصيل في مقالات ماضية ، فقط هنا يجب أن نذكر أن الإنجيل قد أكد بطريقة غير مباشرة عن صحة عقيدة التقمص ( يوحنا ٨ : ٥٨ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».) أيضا فإن أتباع مذهب القابالا في اليهودية وكذلك أتباع مذهب الموحدين (الدروز) في الإسلام ، يؤمنون بعقيدة التقمص ، فهذه المذاهب لم تظهر من فكر بشري ، ولكنها من وحي إلهي ، والحديث الشريف يذكر (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة) . إن ظهور عدة ديانات وعدة فرق هو سنة الله تعالى ، تماما مثل ظهور عدة انواع مختلفة من العلوم ، حيث كل علم له زاوية رؤية خاصة به لدراسة الشيء أو الحدث ، حيث بإتحاد هذه الزوايا العلمية نحصل على الرؤية الشاملة (البصيرة) .
هكذا هي تماما أيضا الديانات والفرق ، فكل فرقة ترفض التعاون مع الفرق الآخرى هي في النار ، والفرقة الناجية هي التي ترى الأمور بزوايا رؤية جميع الفرق . فزاوية رؤية مذهب الموحدون (الدروز) الذي يؤمن بالتقمص هي أحد زوايا رؤية الفرقة الناجية . ولهذا كان عدد الفرق في الحديث الشريف يعادل الرقم (٧٣) والذي يمثل القيمة الرقمية لإسم الله {ا(١)+ل(٢٣)+ل(٢٣)+ه(٢٦)=٧٣} . (هذا الموضوع شرحناه بالتفصيل في مقالات ماضية) .
خلاصة الحديث عن الديانة الهندوسية: عندما يموت الإنسان يترك خلفه كل ما حققه في حياته في عالم الماديات من مناصب إجتماعية وثروات مادية ، ولا يأخذ معه سوى أعماله الروحية . كل إنسان يعيش اليوم ولد وعاش عدة حيوات في جميع العصور الماضية وفي جميع مناطق العالم ، كل منطقة وكل عصر لهما بيئة ذات صفات روحية خاصة بهما تمثل جزء من الروح العالمية التي تم توزيعها على جميع مناطق العالم ، فوجب على الإنسان أن يحمل هذا الجزء من الروح العالمية من كل عصر ومنطقة ليحل محل تلك الشوائب الموجودة في تكوينه الروحي نتيجة الخطيئة التي حصلت في الجنة ، فهذه الصفات الروحية التي سيجمعها من كل منطقة وكل عصر ولد فيه هي التي ستشكل تكوينه الروحي الذي سيحدد هويته وشخصيته اليوم (عصر آخر الزمان) .كل إنسان يعيش اليوم قد عاش في عصور ما قبل التاريخ وعاش كهندوسي ، وعاش كيهودي ، وكمسيحي ، وكمسلم . والإنسان المؤمن اليوم هو الذي إتبع تعاليم ديانة العصر والمنطقة التي ولد فيها في كل حياة عاشها في الماضي وحملها معه لتصبح من تكوينه الروحي (عقله الباطني) الذي هو عليه اليوم ، لهذا فهو يرى نور ذلك الجزء من الروح العالمية الموجود في كل ديانة وفي كل منطقة . فهذا التكوين الروحي الذي أسسه هو بنفسه في حيواته الماضية هو الذي يدفع المؤمن اليوم بالإحساس نحو الأمم الأخرى بوجود روابط عديدة تجمع بينه وبينهم وتجعله يشعر وكأنه واحد منهم ، فيضع الإنتماء الإنساني فوق جميع الإنتماءات الأخرى (دينية ، مذهبية ، عرقية ، سياسية ...) فيحاول نشر المحبة والسلام والتعاون بين الأمم . المؤمن اليوم هو الذي يؤمن بإله التوحيد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) الحجرات}. بعكس الإنسان المتعصب دينيا أو مذهبيا أو عرقيا الذي في حيواته الماضية قد أهمل تعاليم الديانات التي ولد عليها في حيواته الماضية ، فلم يأخذ منها سوى الآيات المتشابهات أما الآيات المحكمات فأهملها نهائيا ، ولهذا فهو اليوم يحمل في داخله تكوين روحي فقير منغلق على نفسه يعاني من عمى البصيرة ، وحقده على الأمم الأخرى جعله يحتكر الجنة لنفسه ولأتباع المذهب الذي ينتمي إليه ، وبسبب أنانيته هذه نراه يحاول تأجيج الفتن بين الأديان والمذاهب والشعوب كونه لا يؤمن بإله التوحيد ولكن بإله التمزيق {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ(٧) سبأ} .
في المقالات القادمة -إن شاء الله- عندما نتكلم عن اليهودية والمسيحية والإسلام سنذكر مكارم الأخلاق لكل ديانة منها ليتضح لنا معنى علاقة تكامل الديانات مع بعضها البعض لفهم حقيقة عقيدة التوحيد وعلاقتها بالإنسان الكامل ...... والله أعلم .
ز . سانا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق